قانون عصر الأنوار
في صيف عام 1764، في مدينة ليفورنو بإيطاليا، وتحت تأثير روح فلسفة عصر التنوير والموسوعيين، نشر شاب إيطالي، كان يبلغ يومها ستة وعشرين عامًا، ومن دون أن يكشف عن هويته، مقالة قصيرة تناول فيها «قسوة التعذيب وعدم انتظام الإجراءات الجنائية». إلا أن هُوية الكاتب، لم تبق مجهولة لفترة طويلة، إذ سرعان ما تمّ التعرف على الماركيز تشيزره بيكاريا (1738-1794، كاتب المقالة)، بعد أن حقق النص نجاحًا هائلًا، لينتشر في جميع أنحاء أوروبا بعد أن تُرجم إلى لغات عدة، وبخاصة في فرنسا، حيث وجد هناك صدى واسعًا، ما جعل فولتير وديدرو ودالمبير يهتفون له، معتبرين أن بيكاريا يضع أسس التفكير العقابي الحديث. من هنا، تحول بيكاريا -عبر احتفال عصر التنوير به- مرجعًا أساسيًا للثورة، (وربما لغاية اليوم لا يزال تأثير فكره، يتخذ حضورًا ما في الفكر العالمي).
في الواقع، وعبر ما كتبه، بدا بيكاريا بمثابة الأخ الروحي، التوأم، للموسوعيين، إذ أراد -فيما عبّر عنه- أن يؤسس «في العقل والإنسانية» مبادئ عدالة جنائية جديدة. لذا سعى في أن يطور فكرًا أصيلًا يرى في العقوبة ضمانة للقانون وليس خروجا عن القانون. من خلال دعمه العدالة العلمانية، وحرصه على الدفاع عن المنفعة الاجتماعية، أدان بيكاريا عقوبة الإعدام وآثارها الضارة، معتبرًا أن أي عقوبة يجب أن تكون مرتبطة بالحرية وليس بالسلطة، كما أن تكون مرتبطة بالمطالب الاجتماعية وليس بتعسف الحاكم أو القاضي.
دعا بيكاريا أيضا في مقالته هذه التي حملت عنوان «حول الجرائم والعقوبات»، إلى التشكيك في جزء كبير من عمل العدالة، أي أنه شكك فيها في النظام القضائي الذي كان قائمًا في ذلك الوقت من القرن الثامن عشر. كذلك جاءت مقالته هذه، لتدين الظلم الذي كان يلحق بالأفراد، مثلما أدان، وبشكل خاص، التعذيب الذي وصفه بالقول إنه «البربرية التي تقدسها الممارسة»، والتي لا تؤدي إلا إلى انتزاع اعترافات لا قيمة لها: فالخوف من العذاب المستقبلي يجعل البشر يقولون أي شيء للهروب منه. عقوبة الإعدام لا تجد استحسانًا في عينيه أيضًا، معتبرًا أن الضغط المستمر يتخلل الضمائر وهو أكثر من مشهد عنيف.
باختصار، كانت المسألة بالنسبة له، تكمن، في المقام الأول، في الحفاظ على فرص إعادة اندماج الشخص المذنب في المجتمع، حتى لو كان ذلك مهمًا في نظره، ولكن الدفاع عن الأخير، من دون تجاوز ما هو ضروري للغاية لتحقيق ذلك، ومن دون أي تقصير أيضا. يمكننا أن نلاحظ بشكل عابر، وربما بشكل مسلّ (فيما لو جاز القول)، منطقه لصالح حمل المواطنين للسلاح، وهو بالضبط ما نسمعه من «جمعية البندقية الأمريكية» مثلا: حتى لا نترك احتكار هذه القدرة على حيازة الأسلحة لأولئك الذين لا يحترمون القانون، واستخدامها ضد المجتمع، إذ على الأخير، أن يمنح المواطنين إمكانية امتلاكها. من دون أدنى شك، يتعين علينا أن نضع هذا في سياقه التاريخي، الذي يكاد يكون أيضا سياق التعديل الثاني لدستور الولايات المتحدة، الذي لا يزال ساريًا، ولكنه لم يعد سياق الكثير من بلدان العالم. في عصرنا هذا، من المفترض أن تعمل أجهزة الشرطة الجيدة التنظيم على تحقيق هدف حماية المواطنين بشكل أفضل بكثير مما قد تفعله لوحدها؛ بشرط، بالطبع، ألا يكون حقهم في استخدام العنف المشروع الذي من المفترض أنهم يحتكرونه بشكل غير قابل للطعن.
ما كتبه بيكاريا يومها، كان متقدمًا جدًا على عصره؛ وربما لذلك، يعتبر اليوم بأنه كان أحد رواد تصور ركائز العدالة التي نعرفها في عصرنا الحالي، أي بعد ثلاثة قرون. بدا كتاب بيكاريا حين صدر بمثابة قنبلة موقوتة، أشعلت نار المفكرين العظماء في ذلك الوقت. تمت ترجمته بسرعة كبيرة في جميع أنحاء أوروبا ولا يزال يشكل حتى اليوم عملًا مرجعيًا لطلاب القانون وحتى للآخرين. إزاء هذا النقد، الذي وجهه إلى تلك الممارسة التي كانت سائدة في عصره، قدم بيكاريا عدة مقترحات للإصلاح، منها: الفصل بين السلطات الدينية والقضائية، وتناسب العقوبات مع الجريمة المرتكبة، وتفضيل المنع بدلًا من القمع.
ومع ذلك، تمّ التخلي عن رؤيته للعدالة جزئيًا: فقد رأى بيكاريا أن الجرائم يجب أن يعاقب عليها وفقًا للضرر الذي تسببت فيه، وليس وفقًا لنيّة الطرف المذنب كما هو الحال اليوم. لقد أراد عقوبة «شخصية» لكل نوع من الجرائم، أما في الوقت الحاضر فإن عقوبة السجن/الغرامة هي التي يتم تطبيقها على الجميع. ينبغي لكل مواطن أن يعرف دائما ما إذا كان يخالف القوانين، وهو ما يجب كتابته «بلغة واضحة وسهلة المنال» : فمن الذي يملك المعرفة الكافية بعشرات الكتب التي تشكل القانون والتي لا ينبغي لأحد أن يتجاهلها؟
وعلى الرغم من أن هذه المقالة (تعيد إصدارها منشورات غارنييه فلاماريون في سلسلة الجيب الخاصة بها) - تحتوي على أفكار وأسئلة لا تزال ذات صلة بعصرنا، إلا أن ثمة سؤالًا لا بد أن نطرحه: هل لا يزال النص شابا، كما كتبه ذلك الشاب يومها؟
من دون أدنى شك، نجد أن هذا النص قد تقدم في السنّ، ومع ذلك، فلا يزال يحتفظ بالقوة والحيوية والعمق. لذا يبدو أن إعادة قراءته أمر ضروري، في وقت نجد فيه أن الكثير من البلدان والحكومات، ترغب في إعادة عقوبة الإعدام، وحيث يريد الناس تحقيق «العدالة» بأنفسهم، ويكونون على استعداد للخلط بين الافتراض والشعور بالذنب، ويعتقدون أن الجميع باستثنائهم يستحقون العقاب والسجن، وتحرم الآخرين من أصغر مقومات الكرامة الإنسانية، وتعتبر أن المحكوم عليه ليس له حقوق، بل إنه ينبغي أن يكون سعيدًا بوجوده في السجن بدلا من رجمه... وهكذا والأفضل... باختصار، قراءتها والتأمل في كل شيء.
نص تأسيسي. للقراءة وإعادة القراءة والمناقشة. بهذا المعنى، يشكل عمل بيكاريا هذا كتابًا كلاسيكيًا في فلسفة القانون الجنائي، علينا فعلا أن نقرأه، وهو بالتأكيد ليس مخصصًا للفقهاء فقط بل ثمة هذا الجانب الإنساني الذي ينبثق من أفكار المؤلف.
كما أن مقدمة روبير بادينتر تستحق القراءة بعناية، إذ يلخص النقاط الأساسية في فكر بيكاريا ويقيم روابط مع أنظمتنا القضائية الحديثة؛ لا سيّما في ظلّ هذه المناقشات الراهنة حول العدالة ووظيفتها وإيديولوجية القضاة، وما إلى ذلك. أليس هذا هو الوقت المناسب لقراءة هذا العمل الشهير، الذي كان له على ما يبدو التأثير الكبير في الجزء الثاني من القرن الثامن عشر على الجمهور المستنير، وحتى على القضاة أنفسهم، وبلا شك في فرنسا أكثر ممّا كانت عليه في بلد المنشأ؟