No Image
ثقافة

في القدس.. بها ومعها

27 يونيو 2024
27 يونيو 2024

هي عمري كله منذ أول إطلالة لعيني مولود، تقرّ عيون أسرته به، لعله يخفف من سطوة الهزيمة عليها؛ فلم تمضِ على الحرب غير شهرين فقط، الحرب التي صارت تُعرف بحرب الأيام الستة، والتي بعد أن كبرنا عرفنا أنها حرب الست ساعات لا أيام؛ فقد حُسمت الحرب قبل البداية، حين أعد لها آباؤنا وأجدادنا عدة الخطابة.

القدس، والطريق إليها قدس أخرى؛ لأنها من جنسها، ولأنها تقربنا إليها، تلك المدينة العادية كأي مدينة، وتلك المدينة غير العادية بما فيها من سحر؛ فأن تكون فيها يعني ببساطة أن تكون في الأزمنة.

هنا، المدينة خارج السور التي تأسست في بدايات القرن العشرين، ويظهر عليها الطابع الكولونيالي الغربي في الشكل المعماري بسبب تأثر البناء المقدسي العثماني بالنمط الغربي، كذلك بتأثير الاحتلال البريطاني، لكن المميز في هذا المسار القصير هو دعوة الجدران لي وللمارين بالقراءة، ومع كل عنوان نقرأ ندخل فترات معينة من التاريخ، فكأن كل عنوان هنا مكتوب يدخلك في رحلة كما في الأفلام، لكن بفرق أن رحلتك تكون سريعة في الذهاب للماضي والعودة منه، وبإمكان المتجول أن يقضي ما شاء من وقت في تأمل هذا الأثر، هنا بستان قبر السيد المسيح، إذن ألفي عام، القدس قبل ألفي عام كيف كانت، قلت لصاحبي إن ذلك ممكن باعتبار أن قبر السيد المسيح يمكن أن يكون في مكان قريب يقع خارج السور، وليس هناك بالطبع أدلة تثبت أو تنفي. لن أطيل الدخول في التاريخ الآن، فقد سبق لي وقضيت ساعات هنا غير مرة.

للقدس خارج السور تاريخ قريب عمره قرن وبضعة عقود، لذلك يمكننا هنا قراءة تاريخ حديث ومعاصر، لأماكن ارتبطت بمن ارتبط وجوده السياسي بالقدس، لكن الأكثر أهمية هو التنوع والعراقة، والجمال، وكله الآن ملك للتاريخ.

كم مرّ من قرون، على فترة السيد المسيح، وفترة بناء السور في بدايات العهد العثماني؟

ثوان فقط، بمجرد مصافحة العين للسور، أدخل في التاريخ، لكن أي تاريخ؟ وهذا السور العثماني الذي بناه سليمان القانوني، إنما هو سور تم التأسيس له بسور سابق، فباب العامود سميّ بذلك الاسم بسبب الأعمدة التي تحته، حيث يبدأ شارع كاردو الروماني. وسنقرأ فيما بعد أن أهل فلسطين، خاصة من محيط القدس، هم من بنى السور، وهم من أغفلتهم بالطبع كتب التاريخ. ولعل تلك الكتب لم تذكر تمامًا كيف أن أهل يبوس، وكنعان بشكل عام، قد أدهشوا الغزاة كلهم في عملهم الزراعي، الذي كان سر بقائهم ورحيل الغزاة.

من هنا أنظر تحت باب العامود؛ فقد كنت طفلًا حين كنت أرى بابًا آخر تحت الباب الأعلى، أدهشني ذلك، وتشوقت للهبوط هناك، ولعل ذلك أخذ وقتًا طويلًا للنزول ودخول التاريخ بل والمرور فيه مع أحد أساتذة التاريخ، حين قضينا نهارًا في استكشاف القدس الرومانية. قال لي طفل سمع من كبار السن في ذلك الوقت، إن القدس مبنية فوق طبقات وأن هناك 7 مدن هنا، بنيت بعضها فوق بعض. نكبر لنقرأ عن الطبقات التاريخية. هي نصف دقيقة نظر فيها للعمودين القديمين، غير مبال بنظرات جنود الاحتلال التي تحصي حركاتنا هنا.

أعود من الزمن الروماني، وأقول لنفسي: جاء الرومان ومضوا وبقيت القدس هنا. بضع خطوات في مدخل باب العامود في يوم صيفي، ثم لأهنأ بأجمل هدية، هي تلك النسمات الباردة التي هبت علينا، بسبب أسلوب البناء الذي يمنح المتجول في البلدة القديمة صيفًا تكييفًا مستمرًا طول تنقله.

أمنح نفسي كوبًا من منقوع اللوز المدهش، لعله تقليد لي ولآخرين، نبدأ به أو ننتهي به، لنهبط قليلًا، وهنا تفرع إما إلى عوالم السوق، أو طريق الحرم، ودوما منذ وعيت على المشي وأنا أحتار بأيهما أمرّ، وبعد مئات التجوالات، ما زلت غير متمكن من المسالك والعقبات (جمع عقبة) التي تربط أزقة القدس، مستمع داخلي لأغنية فيروز «زهرة المدائن»: مريت بالشوارع شوارع القدس العتيقة، متسائلًا عن تلك الطفلة المقدسية التي أهدت السيدة فيروز هدية الورد، فلا بد أنها ستينية فقد مر ستون عامًا على زيارة فيروز للقدس.

وأراني الآن، أقرأ في كتابي: القدس تجوال العين والروح، كنت أعرف وقت إصداره أنه فقط نزر قليل عن مدينة كل جدرانها كتب ومخطوطات وكلمات وتاريخ أكبر من جغرافيتها.

سيكون للتجوال الروحي تجلياته حين تلمع قبة الصخرة المذهبة، خاصة حين أختار باب الملك فيصل المعتم للدخول منه إلى ساحة المسجد الأقصى؛ تلمع القبة فلتلمع الروح، ودقيقة أجد نفسي متخيلا بناء مسجد قبة الصخرة في عهد عبدالملك بن مروان، والذي تم في 7 سنوات. قرب مسجد القبة نموذج صغير بناه المهندسون ليكون دليلا هندسيا بصريا.

أدخل المسجد، فأجد أبًا وطفله يدخلون أياديهم في منفذ صغير بخابية تتصل بالصخرة. قلت للطفل هل عرفت لم سمي هذا المسجد بمسجد قبة الصخرة؟ قلت لأبيه ارفعه ليرى الصخرة الكبيرة وسط المسجد، فوجئ الطفل لأنه هناك ساتر يغطي الصخرة الكبيرة، فأجاب مشيرًا نحوها. رحت أقرأ، فإذا بي أدخل مرحلة التنافس السياسي في عهد الأمويين وعبدالله بن الزبير، لكني أزهد بذلك الصراع وتذكره، خاصة أننا ما زلنا أوفياء للخصام والصراعات. خاطبت نفسي بصوت مسموع، والأب وطفله يسمعان: مسجد بديع تم بناؤه هنا، ولكن بقيت الصخرة تشغل مساحة واسعة منه، هل وقع عبدالملك تحت سطوة تاريخ الصخرة القديم، فخشي أن يزيلها؟ أم أن الأمر متعلق بالمغارة تحت؟ تركت السؤال وهبطت بتهيّب لم تذهبه السنين، فصليت الظهر بخشوع، وجلست أقرأ بعض التاريخ وبعض نفسي، ثم لأدعو، دعاء شخصيًّا وعامًّا لنا، شعبنا وأمتنا؛ فهنا كم هرعت كثيرًا لألوذ بطاقة المكان التي لم تخيب ظني يومًا، فكانت تحررني من الأحزان.

أنظر فأجد كل نظرة كتاب، وكل تفصيل له تفاصيل، وأجد نفسي ما بين تاريخ المكان وتاريخي الشخصي عبر ذكريات تجوالاتي هنا؛ فالعمر كله، وأعمار كثيرين، لن تكفي لإنهاء القراءة، وتلك غير عادية مدينة حجارتها تاريخ عريق.