"فظاعة الحرب" ... مونودراما كلارينيت فادي الغول للفلسطيني أكرم المالكي
11 شخصية أطلّت من خلال الصوت، وبعض المتعلقات الصغيرة، كهيكل يمثل الكلاشنكوف، أو كقبعة أو منديل أو نارجيلة، حيث يدخل الفنان في الشخصيات ويعبر عنها، ويخرج منها بسهولة وخفة، على وقع موسيقى مصاحبة أو موسيقى حية يقوم بعزفها الفنان نفسه على خشبة المسرح. مثلت مونودراما "كلارينيت" من إنتاج مسرح سفر، حكاية الطفل فادي ابن العشر سنوات حين اجتاح الاحتلال الإسرائيلي لبنان؛ حيث يعيدنا الفنان فادي الغول إلى الوراء 42 عاما، ليروي تلك التفاصيل من ذاكرة طفل.
هي مشاهد ما بين القصف والقصف، يرويها الفنان عن الطفل الذي كانه؛ فقد تنقل في الأماكن كما على ألسنة الشخصيات، كما هي، وسط حرب على المدنيين العزل، في فضاءاتهم التي لم تعد آمنة، فراحت الأسر الفلسطينية واللبنانية تتنقل من مكان إلى مكان طلبا لتحاشي القذائف المميتة.
وسط المسرح، يستلقي بيانو كبير، استخدم لوضع الملابس ومتعلقات الشخصيات التي يؤديها الفنان من قبعات وطربوش، حيث يعزف الفنان ويغني خلال المشاهد وبينها.
تعنف الأم طفلها القادم من اللعب بالطين، ليلتقي بالمقاتل و"الرباعية"، التي تصاحب المشهد أغنية تحمل الاسم. تتالى الشخصيات التي يقدمها فادي الغول، لتروي جميعها ما كان من بيروت وما كان من صيف. حين تلجأ الأسرة إلى"جنينة الصنايع"، يلتقي الطفل هناك بطفلة لبنانية، من اهتماماتها رقص الباليه. يرقص الفنان وهو يروي حكاية الطفلة، ابنة صاحب مدينة الملاهي، وبالرغم من الفروقات الطبقية، إلا أن الحرب أذابت تلك الفروقات. يبدع الفنان حين يمثل شخصية الطفل الذي حاول بصعوبة لفت نظر طفلة الباليه إلى ما يملكه من مهارات، ربما لخلق حالة ندية ما، كأنه يعوض النقص المادي بغنى سردياته البريئة.
وحين يتنقل اللجوء وصولا إلى الحمراء، يلتقي روزا اللبنانية المتزوجة من فلسطيني: "الحب بجمع الحرب بتفرق"، ومن خلال توشحه بمنديل زهريّ تتحدث روزا عن الحب، مخاطبة الطفل بمحبة مكتشفة أن الطفل هو أيضا عاشق صغير. ثم يطل عبر فنان المونودراما، مسرحية الشخص الواحد، مالك فندق على كورنيش بيروت، لجأت إليه الأسر من القصف، فتحضر معه كما حضرت مع معظم شخصيات المونودراما، اللهجة اللبنانية المحببة والمتقنة، فتحضر بيروت إلينا، لنعيش أجواءها وسط حرب 1982. في الفندق مكان اللجوء، تنسى العائلات مبيتها في العراء، وتتشاجر على الغرف والأجنحة في مفارقة، كون هؤلاء اللاجئين لم يكن في إمكانياتهم المبيت في فندق خمس نجوم وقت السلم. يسخر مالك الفندق منهم، ويستغرب تنافسهم على الغرف المقابلة للبحر، فيقول لهم إن البحر الآن محتل، ولا ضمان من وصول قذائف الغواصات على الغرف المواجهة له.
ثم ليطل شاب فلسطيني من دورية التموين، حيث يكتشف ما بيد الطفل، تلك الحقيبة التي تحتوي آلة الموسيقى "كلارنيت، فيجمعها له، لتصير مكتملة كونها مكونة من قطع، في الوقت الذي يفاجئ الطفل المقاتل بأنه قادر على جمع بندقية الكلاشنكوف. يعجب المقاتل بالطفل، الذي يفرح باكتمال الآلة الموسيقية.
في الحوار القادم، يطل الأستاذ نصري موسيقي الفندق، الذي أصبح بلا عمل، لكنه يستمر في العزف، فتجمعه علاقة مع الطفل تكون نتيجتها تعليمه العزف على الآلة، بما يصاحب ذلك من مشاهد تقليد سلوك الشخصيات ولغتها، بما يخلق مصداقية ساحرة، تجعلنا نشعر أن هناك شخصيات أخرى على خشبة المسرح، وليست شخصية الممثل الواحد، يهدي الموسيقي أغنية "بعدك لطيف" لفيروز لصديقه، محب الموسيقى الطفل الصغير.
يتكرر إشعال الشموع في المشاهد نتيجة انقطاع الكهرباء عن بيروت المحاصرة برا وبحرا وجوا. وحين تلجأ الأسرة، أو بالأحرى فادي يتيم الأم، إلى منطقة السفارة الألمانية، يظهر أشرف، من خلال الذاكرة، حين يجدان حذاء رياضيا للتزلج، فيسرع كل واحد إلى "فردة"، مذكرا المشهد بما كانت تلقيه طائرات الاحتلال من ألعاب أطفال مفخخة بالمتفجرات. تكون النتيجة استشهاد الطفل أشرف، فيزهد الطفل الراوي بالحذاء باكيا هذا المصير، وهو نفسه الذي لاقى طفلة الباليه نورا. طفل وطفلة تقتلهما المتفجرات الإسرائيلية، تسطو عليهما فتسطو على براءة الطفل الذي يصاب بصدمة حزن عميقة.
في الملجأ نسمع إلى شخصيتين تتحدثان عن بطارية السيارة، لزوم تشغيل جهاز التلفزيون، فيثير الطفل الراوي مباحثات فيليب حبيب، للوصول إلى وقف الحرب على لبنان، حيث نجد ذاكرة الطفل تصف المكوك حبيب بمسلسل فيليب حبيب بسبب تكراره في نشرات الأخبار. وهنا في ظل تقييم البطاريات، تطل كوميديا السيدة اللبنانية حين تقول"ما حدا يحكي عن بطارية جوزي".
في الملجأ يزور فنانون مصريون المكان، بينهم الفنانة نادية لطفي، بمصاحبة عم الطفل سمير، في هذه المناسبة تتم خطبة حبيبين على شرف زيارة نادية لطفي. يتذكر الطفل حين صاحب عمه إلى حفلة في رقص ديسكو.
في مشهد وداع المقاومة لبيروت، وطفل ذاكرة 1982 هناك يودع والده، يشهد وداع والده، يقدم فادي الغول واحدا من أهم الأدوار المسرحية الفلسطينية بل والعربية، في مشهد تمثيلي غاية في التأثير والصدق. "رز ليوم الرز"، يرش الفنان الرز على الخشبة وعلى نفسه محاكاة لما فعله أهل بيروت خاصة نساء المدينة، حيث يكون والده قد أهداه قبعته العسكرية قبل الصعود إلى السفينة التي تقل المقاتلين الفلسطينيين خارج لبنان، وعبور البحر، مذكرنا بأغاني فرقة العاشقين: "بترش الرز والملح بوداع الأبطال". وهنا تصاحب المشهد أغنية مارسيل خليفة: توت توت ع بيروت، يا بيي خذني مشوار"، والتي من خلالها يتنبأ مارسيل خليفة عام 1979، أي قبل اجتياح بيروت بـ3 أعوام، بما سوف يصيب بيروت من مأساة.
يحمل الطفل الآر بي جي كلعبة، ويذهب إلى بيت جدته في مخيم صبرا، فتخاف عليه، فيؤدي الفنان فادي الغول حوار الطفل وجدته، ليدهشنا في جعلنا نرى شخصين لا شخصا واحدا. تلقي الجدة حفيدها إلى أبي مرعب، يبدو كصاحب مصنع براويز للصور واللوحات الفنية ليقضي هناك أسبوعا، فنجد اللبناني أبا مرعب في حواره كما قدمه الفنان، على وقع أغنية فيروز ونصري شمي الدين: سهرة حب.
وأخيرا تختتم المونودراما السوداء، بمشهد مجزرتي صبرا وشاتيلا، حيث تتسلل الجدة وحفيدها وشقيقته من خلال الباب الخلفي عبر مقبرة المخيم بعد صدمة ما شاهدوه من ذبح اللاجئين. حاملا معه برواز صورة أمه المكسور زجاجه. هناك في المقبرة يلتقي فادي بقبر أمه، فيعدها بأنه سيعود إلى زيارتها حين تقف الحرب، التي يبدو أنها طالت كثيرا.
لعل من عنصر إبداع العرض، اختيار النص من وعي ذاكرة الطفل ابن العشر سنوات، وما التقط خلالها من تفاصيل ينتبه لها الأطفال، في تذكر الشخصيات التي التقوا بها، وتقليدها الطفولي. لقد منح ذلك الاختيار العرض ليس فقط مصداقية، بل بتفاصيل قد يهملها الكبار حين يكتبون مذكراتهم.
اختار المخرج أكرم المالكي ما يحاكي شجرة في مقدمة المسرح اليمين إلى الأمام، من خلال حبال متدلية، كأنها فروع شجرة استطالت، والقطن عليها رمز شجرة الحياة والحب.
أما الشجرة الخلفية على اليسار، مع العيدان الشوكية فهي رمز شجرة الموت. كانت مشاهد للحب والفرح عند الشجرة الأمامية مع القطن، أما مشاهد الموت والمقبرة فكانت عند الشجرة الخلفية مع الأشواك.
استخدم المخرج شخصية الراوي الذي تقاطعت فيه شخصية الطفل بشخصية الفنان كاتب قصته الشخصية، من خلال جمل يقولها بين المشاهد وخلالها. بأسلوب الراوي، والذي سرعان ما يندمج في سرد الشخصيات.
لقد خدمت المؤثرات الصوتية والبصرية العرض في كافة تفاصيله، كان لها تأثير في جعل العرض قريبا من الأحداث بل الأحداث نفسها. لقد كان للموسيقى الحية التي عزف فيها الفنان فادي الغول على البيانو والكلارينيت أثر سحريّ خاصة حين تم توظيفها تعبيرا سمعيا عن مشاعر العرض.
صيف عام 1982 الدامي، في بيروت صيف حار بل حار جدا لدرجة الغليان؛ فماذا يفعل المدنيون، بمن فيهم الأطفال غير الذعر!؟
قصة وتمثيل الفنان المبدع فادي الغول، من خلال مونودراما جذبتنا طوال الساعة، ملأ فيها العرض خشبة المسرح، متنقلا بين شخصيات متنوعة الطبقة والمهنة والمشارب، من فلسطينيين ولبنانيين.
جميل أن يطلق على العرض كلارينيت، تلك الآلة التي اهتدى إليها الطفل وهم في الفندق، حيث صاحبته، وارتبط مصيرها بمصيره حتى بعد 42 عاما.
وأخيرا، قدم عرض مونودراما "كلارينيت" عرض حياة لبنان وبيروت، حين أبدع اللبنانيون والفلسطينيون في مقاومة الاحتلال، ليس فقط عسكريا بل حينما أصروا جميعا على استئناف الحياة، خلال الحرب والموت، فظهر الخوف والموت وظهر الفرح والحب، والأمل، والتضامن، والغضب.