"ظننته فيصل".. وردة الفن تنبت في قاع الإنسانية
تواصل الروائية عبير حامد تشييد عالمها المميَّز برواية "ظننته فيصل"، وهي عملها الثاني بعد روايتها "ختام برائحة المسك"، وقد أظهرت قدرة فنية عالية على سبك ضفيرة من الحكايات، والوصف المدهش، والاستبطان، حيث ترصد أدقَّ ما يدور في عقول شخصيَّاتها، لكتها لا تنزلق إلى تلك النوعية الجافة من روايات "تيار الوعي"، التي يحصرُ فيها الكتَّاب قراءهم في غرف رمادية، كأن العالم غير موجود بتفاصيله المدهشة، وكأن الأدب هو اجترار ممل للمشاعر والأفكار.
وفي روايتها الجديدة تصدم عبير حامد القارئ منذ الصفحات الأولى، فالبطلة ياسمينة، تعيش مع أبيها وأمِّها على تخوم الحياة، في مكان يدعى "الفقرة". إنه اسم على مسمَّى، حيث الفقر المدقع والجوع وانعدام الأمان ونار الصيف وبرد الشتاء القارس والخوف من الغرباء والأقرباء سواء بسواء. يحاول الناس في المدينة التي اصطحبتها إليها أمُّها، يوما ما، التحرش بها، بينما يعتدي عليها الأب الشبيه بحيوانات الغابة في مظهره وقسوته ويواقِعُها، ثم يأخذها من يدها ويسلِّمها لشخص آخر يخبرها أنه زوجها "جاد"، كأنه يبيعها لأول شخص يعبر بحياتهم ويدفع فيها أي ثمن!
تمضي عبير في رسم طبقات الانحدار التي تهوي فيها البطلة، وكلما تخيَّلنا أنها هوت إلى القاع، تنفتح حفرة تحت أقدامها فتهوي منها إلى الأرض الثانية، ثم الثالثة، حتى تستقر في الأرض السابعة، دون أن تملك قدرة على التقاط نفسها أو مداواة جروحها، أو حتى فهم لماذا يُقدِم الناس على إيذائها؟ كأن الأصل في العلاقة بين البشر هو القدرة على إلحاق الضرر بالآخرين. كانت ياسمية مجرد طفلة أرادت أن تلعب وأن تمضي وقتا مع عرائسها، لكنَّ الناس والدنيا رغبوا في إنضاجها بالعافية، ليقطفوا ثمارها ويتذوقوها، ويتركوها شجرة يابسة، يمكن أن تقتلعها أيُّ هبَّة ريح.
جعلتنا عبير نلهث مع بطلتها، من بلدٍ إلى بلد، فقد انتقلت بصحبة زوجها "جاد" من "الفقرة" في المغرب إلى باريس، عاشت في مناخ سيئ، فجاد يضربها، ويحاول إجبارها على إدمان الكحول، والسهر مع أصدقاء يجلبهم كل مساء إلى الشقة، وكان عليها في كل يوم أن تخدمهم كجاريةٍ ثم تنظِّف الفوضى التي يصنعونها في عالمها الصغير، قبل أن تقرر بشكل نهائي أن تهرب إلى المدينة الساحلية "دوفيل"، حتى لو اضطرَّت أن تأكل من صفائح القمامة، أو تمضي بقية عمرها في السجن. ثم تبتسم لها الحياة حين تعرف رجلا جديدا يدعى "سيف" ينتشلها من حطام العالم، ويصحبها إلى الكويت، لكنها هذه المرة هي من يقوم بدور الشرير، فرغم أنه تزوَّجها، وتوَّجها ملكة على عائلته، وانتشل أمها من العراء، تقع في غرام شقيقه "فيصل" المتزوج، الذي مثَّل لها خلاصة الذكورة والأمان.
تجعلنا الرواية نعيش على حافة المشاعر، طوال الوقت، نفكِّر أنه لا مبرر للتعاطف مع ياسمية، حتى لو كانت قد تعرَّضت لكل هذا الإذلال، لكننا ما نلبث أن نستعيد ما مرت به فنتأرجح بين مشاعر متناقضة، خاصة وأن "فيصل" نفسه يهوي في الفخ، فلا نعرف إن كانا ظالمين أم مظلومين.
اقتربت عبير من نفسية ياسمينة ونقلت كل فكرة دارت في رأسها، وكل شكَّةٍ وخزتْ ضميرها، وكل صورة رسمتها مخيلتها، نقلت إلينا مشاعر المرأة العاشقة الخائنة، والإنسانة الكسيرة، لكننا ما إن نصل إلى النفق المسدود حتى تفاجئنا بأن ما قرأناه ليس الرواية، وأن ما سردته علينا ليس الحكاية، فالرواية الحقيقية في الثلث الأخير، والحكاية الصادقة مختلفة تماما عما يبدو لنا، ومع هذا ترفض ياسمينة كل محاولات إفاقتها، وإقناعها بالحقائق الصادمة الجديدة!
لقد نجحت عبير حامد في إبقائنا مشدودين إلى آخر كلمة، من خلال بناء ناجح يستند إلى مركز، يمثِّل عمود الخيمة، بدونه يمكن أن ينهار البناء. رواية قاسية وممتعة، فيها فهم للفن، وقدرة على استخلاصه من قاع الإنسانية.