No Image
ثقافة

سيرة محمد عبله.. عن الناس والمدن والصعاليك

12 أكتوبر 2024
12 أكتوبر 2024

من حسن حظ محمد عبله ومن حسن حظنا أنه فكَّر في سيف وانلي ليكون وساطته لدخول كلية الفنون التطبيقية بالإسكندرية.

التحق عبله أولاً بكلية الفنون التطبيقية في القاهرة، لكنها لم تناسب روحه، وبجرأة غريبة سحب ملفه، وسافر إلى الإسكندرية، وقابل وكيل الكلية هناك، فعامله بخشونة، وسأله بسخرية كيف يقبله وقد تبقَّى شهر واحد فقط على انتهاء التيرم الأول؟!

اسودَّت الدنيا في عين عبله، خاصة وهو يرى طلبة الكلية يتحدثون مع بعضهم بمرح، ويجلسون للرسم في حديقة الكلية وفي ممرَّاتها، لكن فجأة قفز إلى ذهنه اسم سيف وانلي. لم تكن تجمعه به صلة، لا قابله قبل ذلك، ولا كلَّمه في التليفون، لكنه يعرف أنه أحد أهم فناني مصر، وبالتأكيد الناس في الإسكندرية يعرفونه. فكر عبله أن يسأل عنه في دكاكين البراويز، لكن معظمهم لم يكن يعرفه، بل إن أحدهم صحح له الاسم بطريقة غريبة، قائلاً له إن اسمه ليس "سيف وانلي"، ولكنه "سيف" وأخته "نيللي" والاثنان يرسمان معاً ويوقِّعان باسم "سيف ونيللي"!

لكنه لحسن الحظ وجد مَن يعرفه أخيراً، ودله على بيته. اتَّجه إليه، وطرق بابه ففتح له سيف بشحمه ولحمه وشعره الأبيض المهوَّش، لقد عرفه عبله على الفور من صوره التي تُنشر في المجلات والجرائد، وفرح حين وجده شديد البساطة، يتعامل على سجيته، ويدعوه إلى الدخول، ويعزمه على القهوة، ويعرِّفه على زوجته "إحسان" هانم، ويثرثر معه في تاريخ الفن، وانعطافه هو شخصياً، أي سيف، إلى مرحلة التجريدية، بعد أن رسم عشرات اللوحات التي استمدَّها من الواقع حوله. ثم استمع سيف إلى مشكلة عبله، وبشَّره بأنه يعرف كامل مصطفى عميد الكلية وتربطه به صلة عظيمة. اتصل سيف به، فأخبروه أن الرجل طريح فراش المرض في أحد المستشفيات، فلم ييأس، وأحضر رقم هاتف المستشفى، واتصل به مجدداً فحولوه إلى غرفة العميد. سأله عن الصحة والأحوال، ثم حكى له قصة الشاب الفنان محمد عبله، فطلب منه العميد أن يرسله إليه بعد يومين في الكلية.

ذهب محمد عبله والأمل يكبر داخله، وحين اطَّلع الرجل على تخطيطاته ورسوماته، انبهر بها للغاية، ووقَّع على ملفه، كاتباً جملة لا يمكن أن ينساها عبله: "تُقبَل أوراقه لأنه فنان"!، ثم ظهر وكيل الكلية في الغرفة فارتجف عبله ودقَّ قلبه بعنف خاصة وهو يقول للعميد إن قبول هذا الشاب ضد القانون، لكن العميد الذي آمن بموهبته، قال له: "لقد أُصِبتُ بأزمتين قلبيتين، وتبقَّت لي واحدة فقط وأُودِّع الدنيا، فهل تريد أن أودعها على يديك؟!"، فتراجع الوكيل وقَبِل أوراق عبله، وهو لا يعلم أنه سيصير واحداً من أهم فناني مصر.

ابتسمت الحياةُ للفنان الصغير، وبدأ يرى كل مشهد حوله كأنه لوحة، وكل كائن أو جماد أو نبات كأنه أيقونة، ثم حاول أن يفهم العلاقات بين الأشياء حوله، وأن يلمَّ بحدود الفن، لكنه كسرها بعد أن تراكمت خبرته وأصبحت في حجم هرم.

تخيل أبوه أن ابنه حقق رغبته التحق بالكلية الحربية، ليكون قريباً من أخيه المجند الذي شارك في حرب أكتوبر 73، لكن عبلة مضى في مساره الخاص الذي رسمه لنفسه، حتى صار واحداً من علامات الفن التشكيلي.

يكتب عبله في كتابه "مصر يا عبله.. سنوات التكوين" سيرته الذاتية، بلغة ساحرة شديدة العذوبة، تليق بأديب كبير، راسماً الحكايات المشوِّقة، عن خطواته في الكلية، وعلاقته بمتحفها الذي أسَّسه الفنان أحمد عثمان صاحب السيرة الكبيرة، ومرمِّم تمثال رمسيس الذي كان قائماً في ميدان محطة مصر، كما يكتب عن علاقته بقسم التصوير في الكلية، وكيف أمدَّه "عم يحيى" العامل بالقسم بكمية كبيرة من الأوراق والقماش القديم، من مشاريع طلبة بالسنوات السابقة لكي يعيد استخدامها، مذلِّلاً له عقبات مادة الديكور، وعلى رأسها عدم حبِّه للأدوات الخاصة بها، بالإضافة إلى ارتفاع ثمنها، وكان أستاذ مادة الديكور معيداً في القسم. أنجز عبله ما طلبه منه على ظهر الورق القديم، واستخدم الفرشاة والحبر الأسود بدلاً من الأقلام المخصصة كبقية زملائه، وعندما يناقشه الأستاذ في أعماله يجيب بقدر ما يعلم. وكان الأستاذ يلقي أعماله بطريقة مهينة جداً بعد مشاهدتها قائلاً له: "الورق متَّسخ.. وما دمت لا تحترم مادتي لن أحترم أعمالك"!، لكن المفاجأة، كما يقول عبله، هي أنه منحه أعلى الدرجات بشكل أثار دهشة زملائه!

يحكي عبله كذلك عن فترة سكنه بمنطقة ستانلي، وعن أهم الشخصيات التي قابلها، ومنها منير فهيم، الذي قابله عبله بالصدفة في محل للبراويز على محطة ترام رشدي وعرَّفه بمكان بيت سيف وانلي. يكتب عبله: "كان بوهيمياً يتصرف مرة كصعلوك ومرة كأمير، يصرف ببذخ شديد، لكنه يبحث أحياناً عن ثمن السجائر"، ويضيف: "ذات مرة طلب منه أحد أثرياء الإسكندرية أن يرسم صورة لزوجته، ورسمها بمهارة فائقة، فخرجت اللوحة رائعة، ألوانها قوية، ولما انتهى منها ماطل الثري في دفع مستحقاته، فما كان من منير إلا أن وضع اللوحة على الحامل وأعاد رسم الموديل، وبدأ في تجريد السيدة من ملابسها، حتى أصبحت عارية تماماً، ثم وضع اللوحة في واجهة المحل. وبطبيعة الحال توافد الناس في زحام شديد على بوابة المحل يتأملون اللوحة من الفاترينة، ولم تمر ساعات حتى جاء الرجل بعد أن عرف الخبر، ودفع المبلغ المتبقي، وجلس إلى جوار منير حتى أقنعه بإعادة رسمها، وألبس بطلتها الملابس من جديد"!

يسرد عبله بعد ذلك تفاصيل علاقته وزملائه المستجدين بالموديلات الجريئة، ومحاولاتهم التلصص على الطلبة الكبار وهم يرسمونها، وفشلهم الذريع، فالزملاء الأكبر سناً كانوا يحيطون المكان بسياج من السرية. ثم كبر عبله وزملاؤه وجاء الدور عليهم لرسم الموديلات الجريئة. كان بعضهم يتصبب عرقاً من الخجل، لكن عبله مضى يرسم بحماس، بل إنه طلب من الموديل "سعاد" أن يرسمها مجدداً بعد اليوم الدراسي فوافقت.

يواصل عبله الحكي عن الناس العاديين والفنانين والأماكن التي سحرته فأصبحت محوراً لأعماله الفنية. ميزة هذا الكتاب ليس فقط في أنه يعرِّفنا على سيرة محمد عبله ومنابع التكوين الخاصة به، لكنه يعرفنا كذلك على الحياة الفنية في مصر عبر عقود مختلفة، وأبرز الفنانين، وكيف كانت الحياة وماذا أصبحت.