سأظل أنتظر شعر وليد الشيخ
أنتظر دائمًا شعر وليد الشيخ، كما أنتظر هربًا غاضبًا وسريعًا من الحصة السابعة في مدرستي الـمصنوعة من شواهد قبور وصمت جثث. أحتاج إلى شعر وليد، كما أحتاج إلى حنين غامض إلى بلاد لا أعرفها، بلاد ليست بالتأكيد بلادي، يأخذني وليد إلى حيث شجري، أنا الفلسطيني المقيم في تاريخ اللعنة أو لعنة التاريخ، التعرف إلى شعر وليد، يشبه التعرف إلى امرأة نعرفها منذ زمن بعيد، نعيد اكتشافها وحبها ولعنتها الجميلة، كما التعرف، أيضًا، إلى مدينة نزورها كل يوم لكننا نسترجع معها نضارة روحنا وماء قلوبنا وندى ذاكرتنا. لا أذكر شاعرًا فلسطينيًا سبق وليد في اكتشاف شجر روحنا وأجسادنا، اكتشفه وتسلقه وهزه وتذوقه ورقّصه وغناه، كأجمل ما تكون الأغنيات، لا أذكر شاعرًا فلسطينيًا قبله ذهب إلى شجرنا.. شجرة حد الـموت حد تخريب الإيقاع وترويع التراث، وتحطيم اللغة وتجميد الصفوف، وبعثرة أثاث مدارسنا من أجراس ثقيلة وكراسيّ جبانة وملصقات حزينة سطحية ومجلات حائط بغيضة، هزّ وليد نخلنا على مرأى من عيون الصحراء المريضة، هزها هزًا مميتًا. هكذا هو شعره، يكتبه بالموت والانمحاء... بالغياب والعزلة. بالشجر تمتلئ نصوصه عكس ادعائه في رشقته الاولى (حيث لا شجر) يكتب الشعر وكأنه يرشقه بجدار متفاجئ دائمًا، جدار العادي والمتفق عليه والمتاح، وليد لا يحب السير على الطرق الـمعبدة حيث العمال العبيد والخرائط والمرسومة بأناقة مهندس طرق واستقرار موظف حسابات وأرقام، إنه يأتينا من فوقنا من طريق غيمية مكثفة ومقطرة، ومن تحتنا حيث الأرض التي تمور بالدالية الخفية، والتمور الـممنوعة، ومن يسارنا ويميننا حيث الـمحميات التي يجتاحها بشعره ويفتح الأبواب للأسود والنمور الـمحبوسة، وليد مطلق النمور الشعرية في شعره يتضامن مع نمور الـمحميات، ويتآمر معها من أجل نمرة كبرى هي الحرية ضد حارسها الـمتجمد الروح والأحاسيس، القابع بخوف شديد وطاعة مؤلمة في كوخ معتم، ليست الجرأة وحدها هي ما يميّز شعر وليد، إذ من السهل أن يكون الإنسان جريئًا، لكن الروعة تكمن في اشتباك الجرأة مع دقة النظرة وتكثيفها واختيار الجوهري من اللقطات وطرافة الربط وعمق الاستنتاج وجمال الدلالة، وشجاعة طعن التراث السقيم في قلبه.
وصل وليد الشيخ إلى خارطة الشعر الفلسطيني، في مرحلة كانت فيها السياسة تنتحل صفة الشعر، وكانت القصيدة رخيصة لذهن سياسي مريض بالشعارات والكذب والتكرار والفقر الروحي. رمق وليد الخارطة من بعيد مبتسمًا وحذرًا، درس أنساقها وتفحّص تاريخ رموزها وجغرافيا نصوصها، وفهم فورًا أن التمهل في الدخول هو صفة شعرية وملـمح جمالي أيضًا، عزلة وليد عن الـمشهد الشعري كانت نصا أيضا، كتبه بذكاء وانتماء إلى مشروعه الذي يشتغل عليه بصمت، أصوات كثيرة داخل الـمشهد دعت وليد إلى الدخول، لكنه رفض بأدب مفضلاً صنع جُزر من الحضور الشعري متباعدة ولكنها نقية من غبار الشعار ودخان الـممكن، النساء في شعره قريبات وجارات وخالات وأمهات وصديقات، كلهن مقبوض عليهن في دائرة الحسية الـمحرجة، كلهن معرّضات للعنة والفضيحة والانكشاف، وليد لا يرحم نساءه، يعرضهن لأقسى وأعذب حالات الانكشاف والوضوح، كلهن مقبوض عليهن بأوضاع خاصة، لـم تجرؤ كاميرا شعرية على التقاطها، مَن من الشعراء تجاهل أحداث أيلول، تجاهلًا تامًا، ولـم يصدقها حتى حين عرف عنها لاحقًا بعد أشهر، إنه وليد الذي كان مشغولًا بالحزن على أمه وهي تهوي إلى هوة لا رجعة منها.
إذ من هو هذا العالـم لحظة موت الأمهات؟
وماذا يساوي؟.
وليد، صافع لغة بامتياز، والبلاغة أشد أعدائه ضعفًا وحيرةً منه ومن وجهته، انظروا إلى صفعاته من ديوانه (أن تكون صغيرًا ولا تصدق ذلك):
(كأن تمر سيارة الجسر مباشرة" أوكأنك رأيتهم على الشباك يشيرون لك بأيديهم، كأنك تأخرت عن الـمائدة أو "ممنوع البصْق
والتدخين
أو إخراجُ اليد أو الرأس
أو رمي النفاياتِ من الشّبابيك
أو التكلّم مع السائق).
من منا انتبه إلى شعرية ودلالات هذه الجملة الـمعلقة في حافلاتنا، والتي نراها كل يوم لكننا لا نعيرها أدنى تأمل؟ وليد، انتبه، والشعراء الـمميزون هم الـمنتبهون قبل غيرهم.
أو
ممنوع لبسُ الشّورت على البلكون)
أو النّظر في عيني الأب مباشرة
أو النومُ حتى الظهيرة
أو أن تلعبَ الأخت على الباسكاليت).
أو
"(أنتِ الوحيدةُ في الحي،
والباقي بشرٌ سواء، نساء ورجال وصغار مثل قطيعِ الـماعز الجبليّ، يتناثرون في الأزقّة ويحشرون بعضَهم في عتماتِ البيوت الضيِّقة.
الفرح الـمؤلـمُ الوحيد أنت، عنوان الـمسافة بين الحرية ووصايا الأسلاف اللئيمة.
الوحيدة في الحي أنت،
بالفاكهة والّلحم والعظم والبارد والساخن والـمعجّنات، وبالنارجيلة على كرسيّ القش الذي يفيضُ بما تحملين إليه من دفء ضجِر، ومن هواء عبق يطير كسرب أزهار وراء كلامك)".
أو
"رأيتك مرّة قبل سنتين ونصفٍ في الباص
ولا مرّة رأيتك بعدها".
من يجرؤ من شعرائنا على كتابة هذه الجملة الـموغلة في نثريتها وعاديتها؟ إنها سخرية وليد وعبثيته، أخاله كتبها ليغيظنا ويلعب بأعصابنا، ويضحك على استغرابنا، إنه لاعب أعصاب مجنون، وخالط أوراق ماكر، وملك نساء حزين، تتسع قصائده لكل شيء كأنها رواية متسامحة وواسعة، حياتها وبكارتها في تعددية قراءتها أو هي مومس نبيلة تتباهى بعدد الرجال الذين استراحوا على سفحي عينيها في الـمساءات الباردة، انظروا إلى الـمفردات في نصوصه عامية وفصحى أو بين بين والمنتزعة من عوالـم متضاربة وغريبة: الشاورما، الـمعجنات، الأسلاف، الفواكه الـماعز، الشباك، البول، اللحم، سينما، عشب، كاسيت، تاكسي، حكمة، ممنوع التجول، فضيحة، ليل، دم، ماء، ألـم، عطر، سيولة صلابة، روح، جسد، دكان، فانيلا، مقهى... إلخ.
.
يبدو وليد مهجوسًا بشكل جمالي ووجودي بحيوات النساء في العائلة من خالات وعمات وأخوات وجدات، إنه يستحضر عذاباتهن وحكاياتهن وأسرارهن. لكنه لا يخضع نسق نصه أو حياته أو طريقة عيشه لـمعايير هؤلاء النسوة الـموضوعات بموضوعية وأمانة في تاريخية أذهانهن، وموضوعية التربية والقيم التي نشأن في ظلها، إنه الـمتمرد السائح في كوكب المرأة، في وأفراحها ومفاجآتها وتقلباتها وآلامه، لكنه يعرج على العائلة ليستريح من وهجات شموس ترحاله الـمفرطة في الانزياح عن خط الأفق الـمرسوم.
سأظل أنتظر شعر الفلسطيني وليد الشيخ.