«دم النار» للمتوكل طه.. جسر بين الكلاسيكية والحداثة
يتفرد الشاعر والكاتب الفلسطيني المتوكل طه بثلاث خواص: الأولى، ثراء قاموسه الشعري واتساعه، وثانيا، اشتغاله الدؤوب على مشروع شعري ثقافـي، تمتد فـيه كلاسيكيته الشعرية إلى أفق حداثي متزن، وثالثا، أنه أغزر الأدباء الفلسطينيين إنتاجًا، فقد بلغ عدد كتبه ما يفوق الستين كتابا، وقصة غزارة إنتاج الكاتب الفلسطيني لديها سياق ومبررات خاصة، يتمثل هذا السياق بشعور الكاتب الفلسطيني بأنه فـي سباق مع الزمن، وألّا فرصة لديه سوى بالكتابة، التي يعتبرها ردا مناسبا على مجازر الاحتلال، ويرتبط السياق أيضا برغبته فـي الفضفضة عما بداخله من غضب وحسرة وحيرة واختناقات، تسبب بها أشرس وأطول احتلال فـي العالم، عاش المتوكل كل حروب البلاد وانتفاضاتها، وشارك فـي النضال الفلسطيني جسديا وشعريا وثقافـيا، وقد شكلت كتبه التي كتبها فـي فترات سجنه الطويلة شهادات ووثائق تاريخية وأدبية جمالية لحياة الأسير الفلسطيني صموده وأحلامه، وقصصه. أمامنا كتاب جديد للمتوكل طه: (دم النار.. توقيعات على جدران غزة) من الإصدارات الجديدة لاتحاد الكتاب الفلسطينيين، الكتاب مهدى: إلى (غزة التي يجرحها الماء) وهو نصوص ماتعة ومحيرة لا تنتمي لجنس أدبي وحيد فهي ابنة الشعر والسرد والتشكيل والسينما والرقص، تجربة الشاعر وخصوصا فـي كتبه الشعرية والنثرية الأخيرة، تحاول التفلت من عقالها والذهاب إلى أفق حداثي يتجاوز حدود المعقول فـي الكتابة الكلاسيكية الفلسطينية، لكن الشاعر الأصيل الصادق فـي تعبيره، لا يسمح للتجربة بالتوغل فـي أدغال الحداثة، مخافة فقدان البوصلة والرؤية التي يحرص على الحفاظ عليها، والتي تشكل جوهر مشروعه الثقافـي الكامل وهي الدفاع عن حق الفلسطيني فـي الإبداع والحياة بشكل طبيعي، اكتشف الشاعر منطقة مناسبة ترضي رغبته فـي التجديد من جهة وتحافظ على أصالته من جهة أخرى، فمد جسرا بين كلاسيكيته وحداثته، وبقي يكتب ضمن هذا الحيز، بلغة يعرف بها اتساعا وحيوية ونضارة. فـي هذا الكتاب (دم النار) يتجلى هذا الجسر كأبهى ما يكن التجلي، فـيذهب إلى جراح غزة الفظيعة، يستنطق إرادتها وحزنها، انكسارها وصلابتها، بنصوص فاتنة تستعير من السرد رقصه ومن الشعر عذوبته. على الغلاف الأخير يكتب الشاعر مراد سوداني رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين على الغلاف الأخير: (هذه نصوص مسفوحة كسيّال وردة الشهداء المهروسة تحت جنازير دبابات الغول الاحتلالي، نصوص جوالة فـي التفاصيل اليومية وأهوال مقتلة غزة التي أعلنت مركزانية التوحش العالمي). وعن تجربة الموكل وسماتها العامة فـي كتاب (دم النار) يقول الشاعر وليد الشيخ: (مفردات الشاعر طه غنية وطازجة، حتى عندما يستدرجها من المعاجم القديمة، إلا أنه يوظفها بشكل أخّاذ، اللغة مطياعة تحت يديه، يعيد إنتاجها، فتصبح أكثر ألقا وحيوية)، من نصوص الكتاب اخترنا هذا النص: (غزة مناديل الدخان وسعفة العويل وفاحشة الجار وبيت العزاء المبعثر وأخدود السواد الكاوي، ولطمة البنت على أبيها، وتغريبة الضياع والنزوج، ورماد الحكاية، وورق المصحف، ووجه العذراء، وسقوط السقف على الرضيع، وغزة جنازة الحمامة، ونعش العروس، ورمح الوثني البغيض، ورقصة المذبوح على تلة المغيب، وانتظار الطعنة وأصيص الزهر الذاوي). الشاعر فـي سطور الدكتور المتوكل سعيد صالح طه نزال، شاعر وكاتب وروائي، ولد فـي قلقيلية مدينة بفلسطين، ونشأ نشأة أدبية، فوالده هو الشاعر سعيد بكر طه، تلقى المتوكل الشعر على يديه. حصل المتوكل على بكالوريوس فـي الآداب من جامعة بير زيت عام 1981، وحصل على ماجستير فـي الآداب، وعلى الدكتوراة فـي الأدب والنقد من جامعة اليرموك فـي الأردن، وعلى الدكتوراة فـي الفنون والآداب من معهد الأبحاث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية فـي القاهرة عام 2005. عمل صحفـيًا منذ منتصف الثمانينيات، وعمل محاضرا فـي أكثر من جامعة فلسطينية. وله نشاط سياسي وطني ضد الاحتلال الإسرائيلي تعرض بسببه للاعتقال عدة مرات. أسّس (بيت الشعر) فـي فلسطين مع عدد من الأدباء الفلسطينيين، وترأس لمدة ثمانية أعوام وعمل مشرفا عاما ومحررا مسؤولا لمجلة الشعراء، ولمجلة أقواس لمدة ثمانية أعوام، كما عمل مشرفا عاما لدارة الاستقلال للثقافة والنشر، ورئيس تحرير المنصّة الثقافـية، ورأس منظمة (شعراء بلا حدود) فـي فلسطين، وهو من أعضاء مجلس أمناء جائزة فلسطين الدولية للإبداع والتميّز، فـي رصيده العديد من الدراسات والدواوين والكتب النثرية والنقدية والفكرية. |