حيفا التي في الكتب وعلى الأرض
في رواية «عائد إلى حيفا»، وقفت عند الذي ذكره غسان كنفاني عن دخوله حيفا من الشرق وما في ذلك من دلالات تأخر تحريرها الذي ينبغي أن يكون من جهات أخرى.. كما وقفت عند عبارة «سعيد س» لزوجته: «إنك لا ترينها، إنهم يرونك إياها».
مقصده واضح، إن المحتلين يريدون أن يظهروا لنا ماذا فعلوا من تعمير كأن حيفا لم تبدأ إلا معهم، وحيفا العامرة كانت من أهم مدن المتوسط قبل عام 1948.
كان ذلك صيف عام 1967، حين أصبحت فلسطين التاريخية جميعها تحت الاحتلال، بجانب سيناء والجولان أيضا.
ادعاءان صهيونيان: إسرائيل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وأن الصهاينة قاموا بتعمير فلسطين وجعلها خضراء، وكلاهما ينبعان من ادعاء سابق بأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض!
حين أدخل جغرافيا فلسطين المحتلة عام 1948، فإنني أدخل تاريخها العريق، الذي ظل بالرغم ما اجتهدت به الحركة الصهيونية من مسحه.
سمح الاحتلال وقتها لفلسطينيي الضفة الغربية وغزة بدخول فلسطين المحتلة عام 1948، فزار اللاجئون مدنهم وقراهم وبيوتهم التي تم تهجيرهم منها قبل 19 عاما، (أصبحت الآن 76 عاما). من هؤلاء عائلة سعيد س التي لجأت إلى رام الله بعد عام 1948. لعل رمز غسان كنفاني بـ سعيد س، تعني اللاجئين جميعا.
سلكت طريق القدس يافا، ثم سرت مع البحر في شارع البحر، كنت أقرأ ما تيسر من أسماء، وأنظر للكرمل حين بدأ يلوح في عشقه الدائم للبحر. تذكرت رحلة «سعيد س» حين عاد إلى حيفا، فحزنت، لكن البحر بمائه الكثير كان يأخذني إلى عوالمه فأنسى قليلا. حين مررنا بالقرب من بلدة ما، نظرت وتوقعت أن تكون جسر الزرقاء، فتذكرت رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتسائل». جميل أن تكون الإقامة في قرية على بحر. إنها قرية كبيرة، كيف ظلت هذه القرية؟ تساءل قبلي إميل حبيبي حين قال على لسان سعيد أبي النحس المتشائل عنها وعن الفريديس (قرية عربية قريبة من جسر الزرقاء): «وأمر هذه القرية، جسر الزقاء، أمر عجيب، فكيف صمدت هذه القرية لدواهي الحرب والترحيل، مع اختها فريديس الفردوس المجاورة، لما قبض الريح بقية القرى العربية على الساحل، ما بين حيفا وتل أبيب الطيرة واجزم وعين غزال والطنطورة وعين حوض وأم الزينات، وهي أعمق منها جذرا، وأصلب عودا؟ أما فريديس الفردوس فبقيت لحاجة في نفس يعقوب».
هاجس العودة، وأصحاب المكان تستبدّ بي، حسب رواية سعيد في المتشائل الذي لم يكن قد غاب طويلا عن حيفا، فإن أصحاب البيوت الذين ظلوا هناك بعد حرب عام 1948 كانوا متهيبين من الذهاب إلى بيوتهم:
وقد ذكر إميل حبيبي في مكان آخر أمر هذه العودات (جمع عودة): «رجال ونساء، من غزة، ومن الضفة الغربية، ومن عمّان، بل حتى من الكويت، عبر الجسر، يعبرون أزقتنا في صمت، ويتطلعون نحو الشرفات والنوافذ في صمت، وبعضهم يطرق الأبواب ويسأل في أدب أن يدخل ليلقي نظرة وليشرب جرعة ماء، ثم يمضي في صمت، فقد كان هذا بيته. وبعضهم يقابله سكان البيت بابتسامة شفقة، وبعضهم يقابله سكان البيت بابتسامة شقاء، وبعضهم يدخلونه البيت، وبعضهم لا يفتحون الباب في وجهه. وبعضهم لا يطرق الأبواب بل يجول بعينيه باحثا عن صاحب سحنة سمراء عابر، فيستوقفه، فيسأله: هل كان يقوم هنا بيت من حجارة مكحلة؟ فإما أن يقف عابر السبيل، صاحب السحنة السمراء، ويستذكر، ويتذكر، وأما أن يقول له: لقد ولدت بعدها يا عماه!».
كتابات الأدباء الفلسطينيين في سيرهم الذاتية مثل الدكتور إحسان عباس في سيرته «غربة الراعي» تدل على أن حيفا كانت مدينة حديثة عامرة قبل عام 1948:
«وكان في آخر الشارع الذي يقع فيه المسكن عمارة فخمة يسكن في أحد أدوارها آل الزيبق، وقد تعرفت على هنري وأخيه توفيق، بل أصبحت أزورهما في بيتهما أو نذهب معا في الصباح إلى المدرسة، وكان يلفت انتباهي قبل أن نصل المدرسة، بقليل مدرسة تدعى (المدرسة الإنجليزية للبنات) وكنت أعجب بأزيائهن الموحدة وجمال الصبا لديهن».
«وكنت أعود من المدرسة بعيد الرابعة سالكا الطريق الطويلة إلى البيت، لتقل حاجتي للجلوس إلى الطاولة، فالجلوس إليها يُغري بالقراءة والكتابة، وقد أخذ المساء يلف الأفق، وكنت أتعمد التأخر في العودة لأني كنت أقف عند حائط المقبرة القريبة من جامع الاستقلال، وهناك أرى الكتب المستعملة مصفوفة للبيع بمحاذاة جدار المقبرة، فأتوقف لأقرأ عناوينها. وحين عدت ذات يوم من القرية إلى المدينة، ووصلت جامع الاستقلال اشتريت صحيفة ذلك اليوم (سنة 1935) ورأيت فيها صورة الشيخ عز الدين القسام، وعرفت انه استشهد، فغامت الدنيا في عيني لكثرة الدموع».
كان من الممكن أن تكون حيفا قد تابعت تطورها الطبيعي لجميع ساكنيها والذين وفدوا إليها للعمل والعيش قبل عام 1948 لو لم تسقط وتقع فريسة الاحتلال، حيث أصبح تطورها مشوها بسبب تهجير أصحابها الأصليين، وزيادة عدد الأغراب فيها على عدد ناسها الذين ظلوا هنا وهناك وتجمعوا للعيش فيها!
حيفا هذه كانت مدينة التحديث والحضارة، هكذا وصف إحسان عباس مدينته: «نذهب جميعا لمشاهدة فيلم سينمائي في المساء، وكان أكبر مشجع لنا أن يكون الفيلم لمحمد عبد الوهاب، إذ أن ما كان يهمنا من الفيلم حينئذ هو الأغاني، لا قصة الفيلم ولا حبكته ولا شخصياته الأخرى».
ننظر من على الكرمل نحو حيفا، وتلوح في الأفق من بعيد عكا.
كفى جمالا، كفى بحرا، كفى حزنا.