جماعة الأمناء ومجلة الأدب
(1)
لعل أبرز آثار الشيخ أمين الخولي وأبقاها في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية، محاولته الجسور لتأسيس تيار فكري وثقافي في الحياة الثقافية المصرية والعربية، هذا التيار الذي اتخذ من اسم "الأمناء" نسبة إلى أستاذهم وشيخهم أمين الخولي عنوانا على تجمعهم فيما عرف بجماعة الأمناء. تلك الجماعة التي وضع دستورها وأرسى مبادئها الشيخ أمين الخولي، من خلال عدة مقولات شاعت عنه كانت سباقة ورائدة في زمنه وظلت محتفظة بنضارتها وحمولتها المعرفية المتجددة حتى وقتنا هذا، أذكر منها على سبيل المثال فقط، مقولته الشهيرة "أول التجديد قتل القديم درسا"، ومنها "الفهم تملك للمفهوم"، كما صاغ في وقته تلك المعادلة الشهيرة التي أعتبرها من أثمن وأجل ما تركه الشيخ من إرث معرفي وكذلك في التقاليد الجامعية والأكاديمية العريقة، حين طرح أمين الخولي معادلته: التلميذ = الأستاذ + الزمن؟! أو إذا شئنا صياغة أكثر معاصرة وقربا من زمننا قلنا: الطالب= معرفة أستاذه + ما حصله هو على هذه المعرفة متجاوزا إياها ومضيفا إليها ومطورا لها (ط= أ + ز).
تأكيدا لهذه المعادلة/ القانون الذي صاغه الشيخ الخولي، يحكي الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور عن شيخه قائلا:
"كان أكثر ما يؤلمه أثناء الدرس أن يجد طلابه يسلمون برأيه، لا يجادله أحد فيهم، عندئذ تنقطع الدائرة وتخبو النار. أما إذا ارتقت العقول، واصطرع الرأي بالحجة، عندئذ ينفرج وجه الخولي المقطب، ويشتد لمعان عينيه، وتفيض الفتوة العقلية والذهنية من مكامنها، وتتألق الحكمة".. (نقلًا عن كتاب الدكتور حسين نصار، أمين الخولي)
(2)
أما (جماعة الأمناء)، وكما تفيدنا مصادر تلك الفترة، فقد أسسها أمين الخولي عام 1943 من مجموعة مختارة من تلاميذه، وسميت بـ«الأمناء»، تحت شعار «الفن والحياة» وقد كان التوجه المصري في الجماعة واضحًا فاتخذت من زهرة اللوتس شعارًا لها. وبعد سنوات من حياة هذه الجماعة أصدرت في عام (1956) مجلة تعبر عن فكرها سُميت بمجلة «الأدب»، وقد رأس الخولي تحريرها حتى توفي في التاسع من مارس عام 1966، وظلت المجلة تصدر بعد وفاته لأعداد قليلة، حتى توقفت نهائيا.
أما الفضاء الذي مارس فيه الخولي نشاطه المعرفي والتجديدي "الجامعة". فبالنسبة للخولي، كما تؤكد حفيدته الدكتورة يمنى طريف الخولي، كانت الجامعة واقعًا ماثلًا، بل هي واقعه الأول، حلبة كفاحه وساحة نضاله الذي أتى بكثير من الثمار المرجوة. وكان يؤكد دائمًا أن تدريسه في كلية الآداب بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن) هو مهمته الكبرى، وأن صناعته لعقول الطلاب إنجازه الأعظم، وانتشر تلاميذ له في مواقع شتى من حياتنا الأكاديمية والثقافية، فزادوها ثراءً بما تعلموه واكتسبوه من روح الأستاذ المعلم أمين الخولي «شيخ الأمناء»، الجماعة التي ضمت هؤلاء التلاميذ بريادته.
وكان من أبرز أعضاء جماعة الأمناء الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، والدكتور شكري عياد، وصلاح عبد الصبور، والدكتور عبد الحميد يونس، والدكتور عبد العزيز الأهواني، والدكتور عبد الله خورشيد، والدكتور عبد الغفار مكاوي، وفاروق خورشيد، وعبد المنعم شميس، والدكتور لطفي عبد البديع، ومصطفى ناصف، وغير هؤلاء كثير، ملأوا الحياة الثقافية والفكرية والأدبية نشاطا باهرا، بالمؤلفات والتحقيقات والمترجمات، وبالندوات والمناقشات الثرية التي كان يستضيفها الشيخ الخولي في بيته، ثم بعد وفاته في مقر للجمعية المصرية الأدبية (وهي جمعية ثقافية عظيمة لم يكتب تاريخها الزاهر حتى وقتنا هذا).
(3)
عن هذه المدرسة إجمالا يقول المؤرخ والأكاديمي القدير الدكتور أحمد زكريا الشلق "كان أمين الخولي صاحب مدرسة فكرية وثقافية مستنيرة نسبت إلى اسمه، وهي «جماعة الأمناء» التي كان من أبرز أعضائها الدكتور شكري عياد، الذي خلفه في رئاستها، وكان منها الدكتور [إبراهيم] بيومي مدكور، قبل أن يصبح زميلًا له في كلية الآداب، والدكتور محمد أحمد خلف الله صاحب رسالة «الفن القصصي في القرآن الكريم»". وهذه الرسالة وحدها كانت موضوعًا لواحدةٍ من أغرب وأعجب ما قرأت من قضايا الحريات والبحث العلمي في تاريخ الجامعة المصرية في السنوات الأخيرة من أربعينيات القرن الماضي! وبسبب موقفه الشجاع الجسور ودفاعه المجيد عن قيم حرية الرأي والتعبير، والحق في البحث العلمي النزيه والمجرد والدفاع الحر الشريف عن آراء تلميذه في أطروحته للدكتوراه، سيدفع الشيخ أمين الخولي ثمن موقفه هذا بحرمانه من الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعة وإحالته للتقاعد وإن ظل يمارس مهامه التدريسية حتى بلوغه السن القانونية (سأعود إلى وقائع هذه القضية التي شغلت الرأي العام والثقافة العربية كلها في القرن الماضي في حلقات تالية).
وفي ظني أن هذه الأزمة قد تركت آثارها الغائرة العميقة في نفس الشيخ، ما انعكس على مضاعفة جهده مع تلاميذه في جماعة الأمناء، وحرصه البالغ على الدفع بهم في طريق البحث والريادة المنهجية والفكرية كل في مجاله دون أي حدود أو قيود.
وفي سيرته الذاتية «معي» يخبرنا الدكتور شوقي ضيف أنه "كان يُشغف بمحاضرات الشيخ في البلاغة والتفسير، ولما كان قد رأى الغرب ووقف على جوانب من الحضارة والفكر فيه، جعله ذلك يجمع بين القديم والجديد مع محافظة واضحة على القديم، وقد عاد إلى زيه الأزهري بعد رجوعه. وكان يحاول أن يصطنع نهجًا جديدًا في تدريس البلاغة، يدفعه ورفاقه إلى نقد ما يقرأون. ولا ننسى [كذلك] تلميذته النجيبة عائشة عبد الرحمن التي أثر في حياتها وتفكيرها تأثيرًا شديدًا، عبرت عنه بأنه علّمها "كيف تقرأ".
إجمالًا، وكما يقول الدكتور سيد محمد السيد بكلية الألسن، فقد كانت «جماعة الأمناء» "امتدادًا للجامعة في الحياة الثقافية، رسّخت لشخصيةٍ ثقافية ذات طابع إنساني عالمي دون أن تنفصل عن معطيّات اللحظة التاريخية بعد ثورة يوليو، فكانت الهوية المصرية واضحة وعميقة، كانت العلاقة بين المثقّف والمجتمع قضية محورية لدى الأمناء باعتبار الثقافة الطاقة الدافعة للتنمية الحضارية، ولم تكن هذه النظرة واجهة سطحية وإنما كانت رؤية فكرية واستراتيجية عمل".
(4)
أما أبرز أثر بقي لنا من نشاط الأمناء ونشاط هذه المدرسة الفكرية التجديدية العظيمة فهو مجلة (الأدب) التي صدر العدد الأول منها في عام 1956 وصدر آخر أعدادها بعد وفاته بشهر أو شهرين تقريبا عام 1966.
لماذا مجلة (الأدب)؟ وما قيمتها وأهميتها الكبيرة التي تجعلنا نقف عندها مليا؟
ببساطة حفظت لنا أعداد مجلة الأدب خلال السنوات العشر أو يزيد التي صدرت فيها بجهود ذاتية ومن خلال رئاسة تحرير الشيخ الخولي ومساهمة أعضاء جماعة الأمناء، أقول حفظت لنا تاريخا حيا وإرثا لا يقدر بثمن من المقالات والمواد والترجمات التي عكف عليها هؤلاء الكتاب والنقاد والأدباء والمفكرون على اختلاف مشاربهم وتخصصاتهم وتوجهاتهم الفكرية والثقافية.. فكأن الأعداد التي صدرت من هذه المجلة مثلت كرنفالا ثقافيا مبهرا راوح بين القديم والجديد، التراث والمعاصرة، التأليف والترجمة والتحقيق، ونشر النصوص، وتحليلها ونقدها، بالجملة كانت المرآة أو بالدقة المرايا التي عكست بأمانة ونزاهة وصدق تفاصيل هذه الحركة النشطة وهذا التيار التجديدي الأصيل، الذي انتقلت امتداداته من الجامعة الأم (الجامعة المصرية) إلى جامعة عين شمس، فغرست بذورها ونضجت ثمارها وظهر خلال العقود التالية من رحيل الشيخ الخولي مدرسة أصيلة في الدرس الأدبي واللغوي والنقدي والجمالي رادها تلاميذ أمين الخولي وعلى رأسهم الأساتذة والدكاترة: عبد الله خورشيد، ومصطفى ناصف، ولطفي عبد البديع، وغير هؤلاء.
(5)
ولعل خير ما أختتم به هذه الحلقات عن الشيخ المجدد أمين الخولي تلك الأسطر من الشهادة التي كتبها المفكر الراحل محمود أمين العالم (نقلا عن المؤرخ الدكتور زكريا الشلق)، إذ يقول عنه "كان من جيل أساتذتنا العظام الذين يلهمون بشخصياتهم، فتتألف من حولهم المذاهب والمدارس والاتجاهات، ولم يكن مفكرًا منعزلًا، بل كان داعية حقا، لم يخرج في دعوته عن حدود البلاغة والتفسير والأدب.. كان داعية إلى الحياة، إلى التجدد، وإلى التقدم الحضاري والاجتماعي. وبالرغم من تنوع كتاباته واختلاف موضوعاتها، فإنها تكاد تكون بناء متناسقًا متجانسًا يضمه معنى واحد ويحركه هدف واحد هو تجديد الحياة".