توصيات ندوة "محافظة شمال الباطنة في ذاكرة التاريخ العماني" تدعو إلى تعزيز التنقيب الأثري وإنشاء متحف تاريخي
أوصت ندوة "محافظة شمال الباطنة في ذاكرة التاريخ العماني"، التي نظمتها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية بالتعاون مع مكتب محافظ شمال الباطنة على مدار ثلاثة أيام في قاعة مجان بصحار، في ختام أعمالها اليوم، بمواصلة العمل في عمليات التنقيب والمسح الأثري في محافظة شمال الباطنة، وإيلاء مزيدٍ من الجهود للاستثمار السياحي في مختلف المواقع الأثرية والتاريخية بالمحافظة. كما أوصت بتبني مشروع إنشاء متحف يُبرز المعالم التاريخية والمقتنيات الأثرية والوثائق والمخطوطات التي تزخر بها المحافظة، بالتعاون مع الجهات ذات الاختصاص.
وأوصت الندوة أيضًا بإيلاء مزيد من الاهتمام بإبراز الشخصيات الحضارية الفاعلة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية التي أثرت في تاريخ محافظة شمال الباطنة، ومواصلة الجهود في تشجيع المواطنين على تسجيل وثائقهم ومخطوطاتهم التي توثق جوانب مختلفة من تاريخ المحافظة. كما حثت شخصيات المجتمع على تسجيل رواياتهم الشفوية لدى هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية.
كما دعت إلى زيادة الاهتمام بدراسة الموروثات الثقافية المادية وغير المادية، وتوظيف التقنيات الناشئة لعرض تاريخ محافظة شمال الباطنة بشكل عام والتاريخ العماني بشكل خاص. وأوصت الندوة أيضًا بالاستفادة من وسائل الإعلام لإبراز الموروث الثقافي والتاريخي وتجسيده بصورة تحافظ على الهوية الوطنية، بالإضافة إلى تبني مشروع وطني لجمع المصطلحات الحضارية من المصادر التاريخية والفقهية والوثائقية وغيرها.
كما شددت على ضرورة توسيع مجالات التعاون مع الخبراء والمختصين في مجالات التاريخ والتراث الثقافي، ونشر البحوث العلمية المقدمة في الندوة ضمن السلسلة التاريخية والحضارية للمحافظات والمدن العُمانية التي تصدرها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية. ألقى التوصيات الدكتور طالب بن سيف الخضوري، مدير عام البحث وتداول الوثائق بهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية.
فعاليات اليوم الختامي
شهد الحفل الختامي كلمة لسعادة محمد بن سليمان الكندي، محافظ شمال الباطنة، راعي المناسبة، حيث أشاد بجهود هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية في تنظيم هذه الندوة العلمية. وأكد في كلمته على أهمية مثل هذه الفعاليات في تعزيز الاهتمام بإقامة الندوات والمؤتمرات المحلية والدولية، مشيرًا إلى دور الهيئة المستمر في إبراز الإرث الحضاري والتاريخي لسلطنة عُمان عبر العصور. كما أشار إلى أن فعاليات الندوة التي امتدت على مدار ثلاثة أيام في ولاية صحار، أسفرت عن رؤى وتوصيات مهمة تؤكد على العمق التاريخي والحضاري لمحافظة شمال الباطنة، ما يسهم في تعزيز فهم ماضيها واستشراف مستقبلها.
كما ألقى سعادة الدكتور حمد بن محمد الضوياني، رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، كلمة أشار فيها إلى الدور البارز الذي قدمه الباحثون والأكاديميون العُمانيون من مختلف المؤسسات الأكاديمية والحكومية، إلى جانب الباحثين من خارج سلطنة عُمان، وتحديدًا من المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، والجمهورية الجزائرية. وأشاد بتقديمهم تسعًا وعشرين ورقة بحثية، توزعت بين ثلاثة محاور رئيسية: المحور التاريخي والسياسي، المحور الاقتصادي والاجتماعي، والمحور الثقافي. وأكد سعادته أن هذه الندوة أسهمت بشكل كبير في إثراء البحث العلمي، حيث كشفت أوراق العمل عن الحاجة إلى تتبع المزيد من المباحث والوثائق والمسوحات الأثرية، مما يتطلب مزيدًا من الاهتمام والبحث لاستكمال هذه الجهود العلمية.
كلمة المشاركين
في المقابل القى الدكتور أحمد بن حميد التوبي كلمة نيابة عن المشاركين، أكد فيها على أن تاريخ سلطنة عمان يمتد بعمق الزمن، ولا يُعتبر مجرد سرد لأحداث ماضية، بل هو نسيج معقد من التجارب الإنسانية التي تحمل قيمًا وتحدياتٍ وعطاءات تستوجب التحليل والتفسير لاستخلاص العبر منها لحاضرنا ومستقبلنا.
وأشار إلى أن هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية قامت بدور بارز في تسليط الضوء على هذا التاريخ من خلال سلسلة الندوات والنشر العلمي، لافتًا إلى أن هذا الاهتمام يسهم في تعزيز الوعي بتاريخ سلطنة عمان، كما يربط بين الأجيال عبر الحوار وتبادل الأفكار.
وفي حديثه عن محافظة شمال الباطنة، استعرض الدكتور "التوبي" أبرز معالم الرحلة التاريخية التي تناولتها الندوة، مشيرًا إلى أن المشاركين انتقلوا عبر مدن المحافظة، بدءًا من السويق وصولًا إلى شناص، مستعرضين الكنوز التاريخية والثقافية التي تزخر بها تلك المناطق، مثل قلعة صحار وجمال الخنجر العماني وشجرة الليمون الشهيرة.
وختم الدكتور أحمد التوبي كلمته بالتأكيد على أهمية استمرار البحث في تاريخ عمان والمحافظة عليه كتراث ثقافي لا يقدر بثمن، مؤكدًا أن هذه الندوات تفتح آفاقًا واسعة للتعلم والتطور، وتساهم في بناء مستقبل يعتمد على الماضي الغني والقيم التي قدمها لنا.
الجلسة الأولى
وكان قد أقيمت اليوم الجلسة الأولى بإدارة الدكتور علي بن حمد الريامي وحلل فيها بداية الدكتور علي بن سعيد البلوشي أستاذ مشارك، قسم الجغرافيا-كلية الآداب والعلوم الاجتماعية- جامعة السلطان قابوس في دراسته حول "أثر الجغرافيا في ايضاح الشخصية الطبيعية لمحافظة شمال الباطنة" أثر الجغرافيا الطبيعية في ايضاح شخصية محافظة شمال الباطنة عبر الكشف عن مكونات الموقع والأشكال والعمليات الجيومرفولوجية والحركات الجيولوجية، والظروف المناخية والموارد المائية وخصائص التربة والتنوع البيولوجي النباتي والحيواني. كما تستهدف الدراسة استنباط الروابط بين جميع عناصر الجغرافيا الطبيعية لمحافظة شمال الباطنة ودورها في إبراز أهمية موقع محافظة شمال الباطنة على خارطة سلطنة عُمان، واعتبارها محطة استراتيجية طبيعية للخروج من قسوة الصحراء وعزلة القارة إلى وفرة الموارد الطبيعية القارية والبحرية.
واعتمد دراسة الباحث "البلوشي" في منهجيتها على جمع البيانات الخاصة بعناصر الجغرافيا الطبيعية لمحافظة شمال الباطنة وتحليلها كميا ونوعيا وخرائطيا، متبعة في ذلك أسلوب التحليل الوصفي في ربط شخصية محافظة شمال الباطنة بعناصرها الطبيعية، واستنباط الملامح التي تتميز بها تلك الشخصية وكيف يمكن استغلالها لعمليات التخطيط المستقبلي.
التاريخ الثقافي
كما ألقى الدكتور خالد أحمد دغلس، أستاذ مشارك بقسم الآثار بجامعة السلطان قابوس، دراسة حول "التاريخ الثقافي لمحافظة شمال الباطنة في العصر البرونزي المبكر". تناولت الدراسة الاكتشافات الأثرية الحديثة التي كشفت عن دور المحافظة خلال هذه الفترة، مع التركيز على مدافن ثقافة حفيت (3200-2600 ق.م) ومستوطنات ثقافة أم النار (2600-2000 ق.م). كما تم تسليط الضوء على الاقتصاد المعتمد على الزراعة، وتعدين النحاس، والتجارة مع حضارات أخرى كحضارة وادي السند.
النقود العباسية
وناقش الدكتور إبراهيم بن أحمد الفضلي، باحث في مجال المسكوكات الإسلامية، دراسة حول "درهم عباسي ضرب في إفريقية سنة 160هـ"، عثر عليه أحد المواطنين بمنطقة سور آل هلال بولاية السويق في محافظة شمال الباطنة، وجاء فيها أن: دراسة النقود الإسلامية ذات أهمية خاصة لمعرفة النظم السياسية للدول الإسلامية المختلفة باعتبارها وثيقة رسمية صادرة من دار سك الدولة - برعاية الحاكم - يصعب الشك فيها أو الطعن في قيمتها، وقد عوَّل المؤرخون - في مختلف تخصصاتهم - على النقود في دراسة الجوانب المختلفة للتاريخ والحضارة الإسلامية واستفادوا منها في تفسير كثير من الظواهر التاريخية، وإثبات ونفى ما يرد من معلومات في المصادر التاريخية المختلفة، تكمن أهمية النقود الإسلامية في أنه سُجل عليها – ماعدا القليل – أسماء الخلفاء والحكام الذين قاموا بسكها، لذلك أمكن من خلال تصنيف النقود الإسلامية الحصول على قوائم للسلالات والأسرات والدول الحاكمة في العالم الإسلامي، وضبط تواريخ حكمها بمزيد من الدقة، وذلك لأن النقود الإسلامية كانت تحمل تاريخ سكها في كثير من الأحيان، وقد تمتعت النقود الإسلامية بالصدق – إلى حد كبير– في هذا الجانب، لأنه - كما سبق القول - كانت النقود شارة من شارات الملك والسلطان ومظهراً مهماً من مظاهر الحكم والسيادة، لذلك فقد تمسك الخلفاء والحكام بهذا الحق ولم يسمحوا لأحد بانتزاعه.
المجموعات اللهجية
وقدم الدكتور عامر بن أزاد الكثيري، محاضر أول بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية، دراسة ميدانية بعنوان "المجموعات اللهجية في محافظة شمال الباطنة"، تناولت التنوع اللهجي البارز في هذه المحافظة، والذي يعكس التنوع الجغرافي والاجتماعي فيها. استعرضت الدراسة التمايز اللهجي بين البيئتين الساحلية والجبلية في شمال الباطنة، وتأثير عوامل التحديث والاختلاط الاجتماعي على نشوء لهجات مختلطة تجمع بين خصائص اللهجات الساحلية والجبلية.
ركزت الدراسة على تحديد ملامح المجموعات اللهجية من خلال تحليل المتغيرات الصوتية والصرفية والتركيبية والمعجمية، واعتمدت في منهجيتها على زيارات ميدانية ومقابلات مع كبار السن من سبتمبر 2018م إلى يوليو 2019م في ولايات السويق، والخابورة، وصحار، ولوى، وشناص.
كشفت الدراسة عن اختلافات واضحة بين لهجات المناطق الساحلية والجبلية، وتأثير التواصل الاجتماعي والاقتصادي بين السكان على تكوين لهجات مختلطة. قُسمت الدراسة إلى محاور تناولت الخلفيات الجغرافية والديموغرافية والاجتماعية لمحافظة شمال الباطنة، ورصدت صوراً متعددة لنطق الوحدات اللغوية في المناطق المدروسة.
من أبرز النتائج التي توصلت إليها الدراسة وجود مجموعتين لهجيتين رئيسيتين: المجموعة البدوية الساحلية الممتدة من السويق إلى صحار، والمجموعة اللهجية في لوى وشناص. كما وجدت الدراسة أن لهجات الجبال في شمال الباطنة ترتبط بمجموعات لهجية خارج المحافظة، مثل لهجات جبال السويق التي تتصل بلهجات محافظتي الداخلية وجنوب الباطنة، ولهجات جبال الخابورة التي ترتبط بمحافظة الظاهرة.
الوقف الاجتماعي
كما استعرض نبيل بن ماجد العبري، معلم بوزارة التربية والتعليم، دراسة بعنوان "الوقف في صحار: الانعكاسات الاجتماعية والثقافية". ركزت الدراسة على أهمية الوقف في مدينة صحار خلال الفترة (14-12 هـ/20-18م) ودوره في دعم التكافل الاجتماعي. اعتمد الباحث على الوثائق والمخطوطات العمانية لتقديم تحليلات حول أنواع الوقف وأثرها في الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى تسليط الضوء على مساهمة المرأة في هذا المجال.
الجلسة الثانية
وفي الجلسة الثانية التي أدارتها الدكتورة أحلام الجهورية استعرض الدكتور جابر سليمان فخار، أستاذ مساعد بجامعة غرداية، في دراسته "المدارس العلمية في صحار ودورها الفكري خلال القرن الثالث الهجري"، استعرض فيها مكانة مدينة صحار كإحدى أهم الحواضر الثقافية والسياسية في التاريخ العُماني. أشارت الدراسة إلى أن الموقع الجغرافي المميز والتاريخ العريق جعلا من صحار وجهةً لطلاب العلم ومقصداً للعلماء، حيث كان لهم دور بارز في ازدهار المدينة.
ركّزت الدراسة على الحركة العلمية التي شهدتها صحار خلال القرن الثالث الهجري، وهو من أكثر الفترات تأثيراً في تاريخ المجتمع العُماني. تناول الباحث المدارس الفكرية السائدة في تلك الحقبة وأدوارها الثقافية من خلال إبراز إسهامات العلماء وآثارهم العلمية. اعتمد في بحثه على منهج الاستقراء والتحليل التركيبي لتتبع المادة من مصادرها الأصلية المطبوعة والمخطوطة.
الألفاظ الغريبة
كما سلط الدكتور علي بن حمد الريامي، أستاذ مساعد بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية، الضوء في دراسته "مِن غريبِ اللفظِ في كتاب الماءِ للأزديِّ الصُّحَارِيِّ في ضوءِ نَظَرِيَّة الحُقُولِ الدَّلاليَّةِ: حقل النباتات والأشجار وما يتعلق بها - دراسة معجمية دلالية". تناولت الدراسة الألفاظ الغريبة التي وردت في كتاب "الماء" لأبي محمد عبد الله بن محمد الأزدي الصحاري (ت: 456هـ)، الذي يُعد من أوائل المعاجم الطبية في التاريخ.
ركزت الدراسة على تحليل هذه الألفاظ الغريبة، واستقصاء تطوراتها الدلالية في سياقات مختلفة. اعتمد الباحث في منهجيته على المنهج الوصفي التحليلي الإحصائي، حيث صنف الألفاظ وفق حقولها الدلالية، مثل الأدوية، الأعشاب، والأمراض، وتتبّع كيفية تغير دلالاتها مع مرور الزمن، ليتسنى للقارئ فهم المعاني المقصودة في تلك الفترة.
الأسر العلمية
من جانبه ناقش ناصر بن صالح الإسماعيلي، معلم أول بوزارة التربية والتعليم، في دراسته "الأسر العلمية في شمال الباطنة: أسرة الشيخ محمد بن أحمد الإسماعيلي نموذجاً"، دور أسرة الشيخ محمد بن أحمد الإسماعيلي في الحياة العلمية والسياسية. تناولت الدراسة نسب الأسرة وتاريخها، وإسهاماتها العلمية في القضاء والأدب، بالإضافة إلى دورها في تأسيس علاقات ثقافية مع شرق أفريقيا. اعتمد الباحث على المنهج الوصفي التحليلي لدراسة آثار هذه الأسرة وعلاقتها بعلماء تلك الفترة.
الحركة العلمية
وفي الختام استعرضت الدكتورة هدى بنت عبد الرحمن الزدجالية، باحثة في التاريخ الحديث والمعاصر، في دراستها "الحركة العلمية في مدينة صحار: المدرسة السلطانية والكمالية أنموذجاً"، تناولت فيها الحركة العلمية المزدهرة في مدينة صحار عبر تاريخها، خاصةً من خلال المدارس العلمية الدينية التي أسهمت في تخريج العديد من علماء محافظة شمال الباطنة وسلطنة عُمان، تطرقت الدراسة إلى المدرسة السلطانية بصحار، التي تعدّ أول مدرسة سلطانية في عمان، أسسها السيد حمد بن فيصل البوسعيدي والي صحار بين عامي 1921 و1931م، قبل إنشاء المدرسة السلطانية في مسقط. ضمت المدرسة نخبة من علماء صحار، وكان لها دور بارز في تخريج عدد من مثقفي شمال الباطنة، مثل الشاعر محمد بن راشد المعولي والشاعر أبو صخر سيف بن يعرب السعيدي. كما تناولت الدراسة المدرسة الكمالية التي يُرجح تأسيسها في أواخر القرن الثامن عشر على يد الشيخ محمد بن كمال الكمالي.