تحدِّي حسن داوود الناجح في "فرصة لغرام أخير"!
خطر لي وأنا أقرأ الصفحات الأولى من رواية الكاتب اللبناني حسن داوود "فرصة لغرام أخير" أنه وَضَع نفسه أمام تحدٍ صعب، فلا يوجد بها حدث رئيسي، وكل ما نعرفه أننا في فترة الوباء، حيث تحوَّلت البيوت إلى زنازين، والمستشفيات إلى مقابر، وصار الجو خاملاً وكئيباً وميِّتاً، ولا يوجد سوى ثلاثة أشخاص، يتبادلون الحكي والتلصص، اثنان منهما في البناية الأولى (عزت وتامر)، يراقبان الثالثة (إلسا) في البناية الأخرى، لكني بمواصلة القراءة أدركت لعبة حسن داوود، ومقدرته الفذة على تخليق الأحداث من نقطة الصفر، وأنه نجح في إبقائي مشدوداً ومُستَلباً، أسير معه خطوة بخطوة، صاعداً هابطاً، من تلك الشرفة إلى ذاك الشباك، ومن هذا المدخل، إلى ذلك الباب، متشوِّقاً لمعرفة كيف تنمو العلاقات، وكيف يتخلَّق الغرام على البُعد رويداً رويداً.
الثلاثة يعانون من الفراغ. عزت يعيش بمفرده بعد سفر زوجته وأبنائه وأحفاده إلى أستراليا، وتامر يعاني من حبسة كتابة صارت مزمنة، أما إليسا فتعيش مع حماتها، بعد أن غاب زوجها التاجر في إفريقيا لعدة سنوات بدون حسٍّ أو خبر، وأصبحت لا تعرف إن كان على قيد الحياة أم مات؟
تبدأ ألعاب التلصص من شرفة عزت، إذ يسعى بشكل محموم لأن يتخلص من الضجر القاتل، فيراقب النوافذ والشرفات وعمال الديلفري أثناء مرورهم أسفل في الشارع، حتى غمزت صنارته يوماً ما، وأدرك أن هناك امرأة تتلص عليه بدورها. يختبر عزت مشاعر جديدة، وهو يحاول أن يقبض على نظراتها. وحتى يشعر بالمتعة يشارك معه جاره تامر في كل تفصيلة، لكنه لم يشكَّ أبداً أن ذاك الجار يحقد عليه، أو يسعى لمشاركته الفريسة!
لكن ما يحكيه عزت، حرَّك في تامر، شعوراً ما، يتكشَّف لنا بالتدريج، له علاقة بالنساء، فمنذ أن انفصل عن زوجته، لم يدخل في علاقة أخرى، صحيح أن "دينا" وهي حبيبة أيام الماضي تحاول جرَّه من جديد إلى شباكها إلا أنه يقاوم، فيسأل نفسه: هل يشعر بالرغبة في فريسة عزت، أم يسعى لإيقاظ الكاتب النائم داخله؟!
أما إليسا المرأة الجميلة متوسطة العمر، فتشعر برغبة في التحرر التام، أولاً من فكرة أنها متزوجة، فهذا الزوج إن كان على قيد الحياة لم يحاول الاطمئنان عليها منذ سنوات، وثانياً من رقابة حماتها، فقد صارت عيناً مفتوحة عليها طوال اليوم، وثالثاً من كابوس الإصابة بالفيروس، وقد منعها مثل بقية الجيران من الاستمتاع بالحياة إلا في أضيق الحدود!
ثم نعود إلى عزت الذي يتجرَّأ ويكتب رقم هاتفه على كارتونة ويتركها معلقة في الشرفة، ولدهشته تتصل إليسا، لتبدأ الحياة في الابتسام لكليهما، لكنها وهي تُقبِل عليه ترى المتلصص الآخر (تامر)، وتغضب، إذ أدركت أنها، على ما يبدو، فريسة لرجلين لا رجل واحد، وبذلك كان على عزت أن يفسِّر لها ما يحدث، فاعترف لها بشكل عادي بأنه يحكي كل تفصيلة لهذا الجار!
ثم يخرجنا حسن داوود فجأة من مساحة الأربعين متراً الضيَّقة التي تنحصر فيها الرواية، وهي المسافة بين البنايتين، إلى ناصية الشارع، حيث اتفق الاثنان، عزت وإليسا، على أن يتقابلا في مقهى، ثم يخرجنا إلى فضاء مدينة بيروت الواقعة تحت حصار الوباء، لنعيش معهما مغامرتهما وننسى مثلهما كل شيء يخص زوجته في أستراليا أو زوجها في إفريقيا، لكنهما ما إن يغرقا في العسل، حتى ينفر كلٌ منهما من الآخر بطريقته. عزت لأنه تذكَّر على ما يبدو زوجته، واعترف لفسه بأنه ما زال يفكر فيها كأنثى مشتهاة، أما إلسا فغضبت من طريقته، إذ أشعرها بأنها تتطفَّل على عالمه، وفكرت أنها في أمسِّ الحاجة إلى التراجع خطوة أو خطوتين لتحسب مستقبلهما معاً.
كما همس خاطر لعزت بأن تامر يلحُّ عليه في الاستماع لحكيه عن إلسا، لا لشي إلا أنه واقع في غرامها، فيتَّصل به ويسأله مباشرة إن كان هذا صحيحاً؟ تتبدَّل الأحوال بسرعة. تامر وإليسا يعاقبان عزت بعدم الرد على اتصالاته، ويجرِّبان حظهما في غرام جديد، لكن الأمور لا تسير بهذه البساطة، فكلٌ منهما لديه أسئلة عليه أن يجيب عنها أولاً. كان على تامر أن يستسلم لإلسا، أو يستعيد "دينا" ومعها ينفض الغبار عن حبهما القديم، أما إلسا فكان عليها أن تفكر فيما يمكن أن يحدث بعد أن وصلها المال من زوجها واكتشفت أنه لا يزال حياً يهيم على وجهه في إفريقيا!
لا يقدم حسن داود بيروت كأنها الجنة، لكنها مدينة مخنوقة ومرعوبة، تلفظ الأثيوبيات، كما لفظت "ساماواتي" خادمة إلسا، ويضرب فيها الرجال الأصحاء رجالاً مقعدين، ويتلوث ماء البحر بنفايات الفنادق والشركات والأهالي، ويموت الناس بدون أن يجدوا مَن يسأل عنهم أو يكترث لهم. رواية جميلة لا يكتبها إلا روائي من العيار الثقيل.