بهاء طاهر يعيد قراءة النهضة العربية!
(1)
... وما زلنا مع إضاءات بهاء طاهر الثقافية والفكرية والنقدية (أو بالجملة طرح قراءة في كتاباته غير الإبداعية) وهو الجانب الذي لم يحظ بالاهتمام والقراءة والتحليل، مثلما حظيت أعماله الروائية والقصصية الرائعة، ويبدو أن هذا الأمر يشكل "ظاهرة" في سياق الثقافة العربية الحديثة، فجل الاهتمام ينصب على الأعمال الإبداعية الخالصة للكتاب المبدعين، وأقلها -وربما ندرة منها- ينصب على جهودهم الأخرى خارج دائرة الإبداع الخالص..
حدث هذا مع المنفلوطي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، في عصور الإحياء، وحدث مع توفيق الحكيم، ويحيى حقي، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، فيما بين العشرينيات والخمسينيات، ومع صلاح عبد الصبور الذي تركز الدرس كله والبحث كله على دواوينه الشعرية ومسرحياته، ولم يُلتفت في الأغلب الأعم إلى أعماله وكتاباته "النثرية" التي جاءت وحدها في أحد عشر مجلدا شملت أعماله وكتاباته الصحفية والنقدية والسياسية والتاريخية وفي السيرة الذاتية وفي المسرح والسينما! وهلم جرا!
على كل حال، سنقف في هذه الحلقة على كتابٍ غاية في الأهمية والقيمة والنظر لبهاء طاهر، صدرت طبعته الأولى عن سلسلة كتاب الهلال سنة 1993، وصدرت طبعته الأخيرة عن دار الشروق بالقاهرة قبل سنواتٍ قليلة من رحيل بهاء طاهر بزياداتٍ طفيفة، يقول صاحب «خالتي صفية والدير» في ختام الطبعة الأخيرة التي صدرت في حياته عن (دار الشروق):
"ومع أن سنين كثيرة قد مضت منذ ظهور الطبعة الأولى في عام 1993، فلم أشعر أنني بحاجة إلى تغيير شيء مما ورد فيه. فما زلتُ مقتنعًا بفكرته الأساسية، وأتمنى أن يقتنع بها غيرى. لم أحذف سوى بعض الأخطاء التي ظهرت في الطبعة الأولى، وأهمها -للغرابة- كانت إضافة عبارات لم أكتبها ولم أستَشَر بشأنها. كنت وقتها مقيمًا خارج الوطن في جنيف، وربما كان هذا عذرًا للقائمين على طباعة الكتاب حينها لعدم تمكنهم من الاتصال بي، واستشارتي بشأن هذه الإضافة"!!
(2)
ربما يكون أدق وصف لهذا الكتاب، ما وصفه به صاحبه من أنه "صعود الدولة المدنية وانحسارها"؛ إذ يطرح فيه صاحبه "رؤية مثقف مصري وعربي" معاصر لمسيرة التنوير والنهضة منذ الطهطاوي، ومرورا بطه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي، ووصولًا إلى جيل يوسف إدريس، وجيل الستينيات الذي كان بهاء طاهر نفسه ينتمي إليه.
والجزء الأول منه؛ مكرس لبيان خُطى التقدم التدريجي لخروج مجتمعنا من ظلام العصور الوسطى إلى أنوار الحداثة والحرية. وحاول الكتاب أن يبين الأدوار التي لعبها المثقفون لإحداث هذه النقلة التاريخية على امتداد قرن ونصف القرن من الزمان تقريبًا. أما الفصول الأخيرة من الكتاب فتعرض خُطى التراجع التدريجي والمنظم لمشروع "النهضة" ذاك، بغية العودة من جديد إلى المنظومة الفكرية للدولة العثمانية "التي يتغزل بها الآن كثيرون على غير علم، رغم أنها قد أشفت بمصر على الهلاك كما يبين هذا الكتاب"، بحسب مؤلف الكتاب.
وعبر فصول الكتاب، وموضوعاته ومعالجاته الرصينة القيمة، يرصد بهاء طاهر "العلاقة بين الثقافة والحرية" أو بتعبير أدق -كما يوضح طاهر نفسه- تدور فصول الكتاب بأكملها حول "ثقافة الحرية"، منطلقًا من أن قيام الدولة المصرية "الحديثة" على يد محمد علي باشا، قبل ما يزيد قليلًا على قرنين من الزمان، قد أنقذ هذا الوطن (بالمعنى العربي والقومي) من الهلاك الفعلي والاندثار الذي لحق شعوبًا أخرى، ويرى أن المثقفين قد لعبوا أهم الأدوار في إحداث التغيير الفكري الذي قاد مصر، ومعها العالم العربي خطوة خطوة، رغم الهزائم والانكسارات، لتصبح في كل مرحلة أفضل مما كانت عليه من قبل.
يقول صاحب «واحة الغروب»: "وأنا أفهم أن هذا القدر من التقدم الذي حققناه خلال تلك الفترة الوجيزة لا يرضينا الآن على أي نحو، وأن الفرق بين التوقعات والواقع ما زال شاسعًا، وأنه ما زال علينا أن نفعل الكثير.. كل ذلك حق، فأما القول بأننا كنا نعيش عصرًا ذهبيًا قبل قيام الدولة الحديثة، ثم جاءت هذه الدولة لتدخلنا في ثقافة «التبعية» و«الاستعمار»، فهو قول أبسط ما يقال عنه إنه يجهل كل الجهل ما كنا فيه، وما أصبحنا إليه".
وأنا شخصيا أميل إلى هذا الرأي، بل وأعتقد بصوابه اعتقادًا شبه كامل، وقد بنيتُ فصول كتابي «سيرة الضمير المصري ـ علامات في الفكر العربي الحديث» على فرضية صواب هذا الرأي، ومنطقيته، وعقلانيته، واعتماده أساسًا لقراءة تاريخ الفكر العربي الحديث، ولتاريخ النهضة والاستنارة العربية كلها، منذ الحملة الفرنسية بل ومن قبلها بحوالي نصف القرن، وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها.
(3)
إن نهضتنا الحديثة قد بدأت باتصالنا بالغرب، ويرى بهاء طاهر أن ذلك قد تم بفضل تأسيس دولة محمد علي باشا (1801-1848) لا بسبب الحملة الفرنسية على مصر والشام (1798-1801) كما يذهب البعض، وينحاز بهاء طاهر إلى الرأي الذي يقول إن الحملة الفرنسية قد أخَّرت النهضة، ولم تساعد عليها (وسيفصل بهاء طاهر هذا الرأي من خلال فصول الكتاب)، ذلك أن الثقافة الحديثة برغم تأثرها الواضح بالاتصال بالغرب، فإنها أيضا تكن اقتباسًا مباشرًا منه أو نقلًا حرفيًا عنه، بل تبلورت في معظم الأحيان من خلال الصراع المباشر مع الغرب، ومن خلال الرفض للكثير من قيمه ومنطلقاته، إذ كان ذلك الاتصال في حقيقته فرصة للمراجعة، ولمحاولة تأكيد الذات بالعودة إلى الثوابت الثقافية للذات المصرية والعربية، ولإحياء القيم النبيلة في حضارتنا الإسلامية الزاهرة التي طمستها عصور الظلام المملوكية العثمانية، ومن هنا كان صراع الثقافة العربية الحديثة ضد "التغريب"، وضد "التتريك" معًا، سعيًا لتأكيد ذاتية ثقافية مستقلة.
وبالمناسبة، يمكن الإشارة هنا إلى اللحظة التي قرر فيها الحاكم محمد علي باشا باقتراح سديد من مستشاره الثقافي (الشيخ حسن العطار، ومن بعده الشيخ رفاعة الطهطاوي) تعريب الديوان الحكومي (أو الأميري) واعتماد اللغة العربية إلى جوار "التركية" لغة المراسلات والمراسيم الحكومية الأميرية، وتم تطبيق هذا الأمر على جريدة "الوقائع المصرية" الرسمية التي كانت تحرر بالتركية فقط، ثم صارت تحرر بالتركية والعربية معا، إلى أن أصبحت تحرر بالعربية وحدها فقط.
ويرى بهاء طاهر أن إرادة الحاكم وحدها، ولو كان في مثل عزيمة وإصرار وطموح محمد علي، لم تكن تكفي أبدًا لإحداث تغيير هائل بمثل هذا الحجم في المجتمع، وإنما الفضل يرجع إلى واحدٍ من إنجازاته الكبرى في تحقيق تلك النقلة الهائلة، ويعني بذلك -بطبيعة الحال- نشر التعليم العصري الحديث، وتأسيس المدارس التجهيزية والمتخصصة لتخريج المؤهلين للخدمة في الجهاز الإداري للدولة.
يقول بهاء طاهر "فإذا كان هذا الجندي الألباني الطموح قد أراد أن يحكم مصر على الطريقة العثمانية، وأن يورثها لخلفائه ليحكموها بالطريقة نفسها، فإن المدارس هي التي خرجت المثقفين الرافضين لهذا الأسلوب في الحكم، ولهذه الطريقة في الحياة، ومع نشوء جيل جديد من المتعلمين بدأ الصراع لانتزاع الحقوق والحريات، بالتدرج ودونما انقطاع".
(4)
نشرت فصول الكتاب متفرقة في مراحل مختلفة، قبل أن يقرر صاحبها أن يجمعها بين دفتي كتاب، ولكنها كلها تدور في فلك اهتمامات واحدة انشغل بها بهاء طاهر سواء في عمله القصصي أو النظري؛ وهي: "الحرية"، و"دور المثقف في المجتمع"، و"العلاقة بالآخر والصلة بالغرب".
نعم. يمكننا أن نطمئن تمامًا إلى اعتبار هذا الكتاب «أبناء رفاعة» (أو على الأقل في اعتقاد وتصور كاتب هذه السطور) هو شهادة بهاء طاهر الأمينة وقراءته الصادقة عن هذا العصر؛ وخاصة في "بواكيره الأولى" التي شهدت مخاض البحث عن النهضة العربية التي ما زلنا نبحث عنها حتى اللحظة!