بروكسل: مدينة التناقضات والاستمرارية
صباح هذه المدينة يبدأ على مهل، أو على أقل من مهل.. فشمسها تشرق من الأفق البعيد بعد الثامنة بقليل، وخيوطها الذهبية التي يمكن رؤيتها وهي تتسلل فوق بنايات المدينة التاريخية تبدو شديدة الكسل، وغير قادرة على نشر الدفء بعد ليلة شديدة البرودة على زائر جاء على عَجَل من جنوب جزيرة العرب.
لكن دفء مدينة بروكسل عاصمة بلجيكا وعاصمة الاتحاد الأوروبي يكمن في جوهرها، وفي تاريخها وفي قدرتها على صناعة المتناقضات والتوازنات في قارة تعيش أصعب أوقاتها منذ الحرب العالمية الثانية، وهي أوقات تهدد الكيان في عمقه، ليس من خطر زلزال التهديدات القادمة من وريث الاتحاد السوفيتي ولكن من زلزال الهجرة الذي يهدد هُوية المدن الأوروبية وثقافتها كما لم تستطع أن تفعل حتى الدولة الاستعمارية في مستعمراتها في القرون الماضية.
تستقبل بروكسل زائرها بمزيج غريب من الهدوء والوداعة رغم زحامها الذي لا يطاق، ويعلن أفقها، الذي يتخلله برج دي فيل في جراند بلاس ومجسم التجريد الحداثي لأتوميوم، عن مدينة متمسكة بجذورها التي تعود إلى العصور الوسطى ولكنها في الوقت نفسه مدينة معاصرة بشكل لا جدال فيه.. إنها مدينة قادرة على بناء مزيج فريد بين الأصالة والمعاصرة في الوقت ذاته. لكن هذه الواجهة التاريخية في "جراند بلاس" وهذه المعاصرة في "أتوميوم" وما يشكلانه من توازن معماري لا يمكن أن يخفيا التناقضات بين تاريخ المدينة الهادئ ودورها كمركز صاخب للسياسة الأوروبية.
الوقت ضيق جدا والمدينة مزدحمة ولا خيار إلا البحث في أعماقها التاريخية لفهم حقيقة تناقضاتها. وأول طريق لفهم ذلك يقود الزائر إلى الميدان الكبير "جراند بلاس" في قلب المدينة حيث قاعة بروكسل التاريخية وهي البناء الوحيد في الميدان الباقي من العصور الوسطى حيث بني بين عامي ١٤٠١ و١٤٤٥.
يبدو جراند بلاس مثل أسطورة منحوتة في الحجر بطرازها المعماري الذي يعود إلى العصر القوطي وهو العصر الذي ما زال تأثيره شديد الحضور على أوروبا بأكملها الزمر الذي يجعلك تشعر في الكثير من الأحيان أنك تسير في محيط واحد وفي بلدان صنعتها ثقافة واحدة رغم الاختلاف الكبير في القوميات عبر التاريخ. تذكر واجهة "قاعة المدينة" المزخرفة بالنقوش الذهبية بتلك الطبقة من التجار التي كانت ذات يوم تسيطر على طرق التجارة في أوروبا. لكن في تلك النقوش المعقدة والتماثيل التي تصطف كجيش يستعد لغزوته الأخيرة وفي الظلال التي تسقط على الجدران وكأنها أغوال قادمة من الزمن السحيق الكثير من قصص الانتصارات والهزائم والكوارث والأخبار القادمة من المستعمرات الأفريقية البعيدة ومن الأوبئة التي تدمر السكان هناك.. إنها حكايات التاريخ وتفاصيله التي كانت تسرد هنا في كل لحظة يوم كانت هذه القاعة مركز المدينة السياسي ومطبخ صناعة السياسية. لكن كل تلك القصص التي عصفت بها التحولات الكبيرة وحركات التحرر الوطني في أفريقيا تتحول اليوم إلى مجرد تاريخ يقاوم الاندثار ويأتي الزوار من كل مكان لقراءته وتصويره بعدسات الكاميرات التي ينتشر حاملوها على طول هذه الساحة الكبيرة، وبين الزوار الكثر الذين يصطفون تحت ظلال هذا البرج الشاهق أفارقة يبتسمون على أطلال كانت ثم بانت ويشترون بعضا من تاريخ المكان الذي يباع على شكل هدايا رمزية وتحفة رخيصة مقلدة، وهذه مفارقة من مفارقات المدينة التي لا تنتهي.
وعلى مقربة من القاعة حيث يكمن تاريخ المدينة، يقف تمثال مانيكين بيس لطفل برونزي صغير يبول في نافورة، والتمثال يعود إلى القرن السابع عشر ويجسد ميل المدينة، أو ما كانت عليه، من الفكاهة والسخرية! ما الذي قد يكون أكثر من بروكسل؟ مدينة تتوج نفسها عاصمة لقارة ولكنها تختار رمزاً لها طفلاً لا يبالي بالعظمة وبالتاريخ في مشهد أقرب إلى السريالية.
لا ترتدي بروكسل تاريخها كما تفعل باريس أو لندن على سبيل المثال، ولكنها لا تخفيه أيضا، عليك أن تتجوّل في شوارعها المتعرجة، حتى تستطيع أن تلتقي بطبقات الزمن فيها متجمعة على صفحة كتاب قديم، وستجد في جولتك الكثير من المفاجآت التي تعيدك إلى التاريخ وإلى قرون الفاتحين ورايات النصر وويلات الخسارة. عليك أن تدخل المتاحف وتبحث عن الجداريات حتى تقرأ التفاصيل الدقيقة لتاريخ المدينة الذي لا يمكن فهمه من خلال التحف الرخيصة التي يبيعها أصحاب المحلات الصغيرة، فالمدينة رغم بعض زهدها متخمة بالتاريخ، والمدينة رغم ما يبدو عليها من هدوء صاخبة سياسيا ومتأهبة عسكريا في ثكنات حلف شمال الأطلسي.
في كل زاوية، تقدم بروكسل لوحة من التعايش والتناقض، فعلى بعد مرمي حجر من الفندق الذي يبدو وكأنه ناطحة سحاب بين المباني القوطية الصغيرة المحيطة به يبدو قصر العدل العتيق "المحاكم العدلية"، وكأنه حارسها من التاريخ والمستقبل، كان القصر ذات يوم رمزاً للقوة القضائية البلجيكية، ولكنه الآن نصب تذكاري متداعي ملفوف، دائما، بالسقالات كما لو أن فعل العدالة يتطلب إصلاحاً دائماً وحفظا من السقوط. ومن درجات هذا المبنى المهيب، رغم سقالاته، يمكن للمرء أن ينظر إلى الأفق ليرى مدينة تحاول باستمرار التوفيق بين تطلعاتها العظيمة وتواضع روحها، فهي لا تريد أن تقول، وفي الحقيقة أيضا، لا تشعرك أنها عاصمة الاتحاد الأوروبي ومركز الثقل السياسي في العالم بعد أمريكا.
ورغم الضجيج الكثير في مبنى الاتحاد الأوروبي وأمامه إلا أن بروكسل ليست مجرد مسرح للدراما السياسية الأوروبية والعالمية؛ إنها أيضا مدينة الثقافة.. كانت ملهمة للكتاب والفنانين الذين رأوا في شوارعها انعكاسًا لتعقيداتهم الخاصة. ورصد كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "بروكسل سكن المشاهير" للكاتب والصحفي هيرفي جيرار" تعلق الكثير من المثقفين شعراء وروائيين وفنانين تشكيليين بالمدينة. ورغم ما حدث مع فيكتور هوجو في المدينة إلا أنه تعلق بجمالها فكتب أبياتاً شعرية تجسد ثنائياتها حملت عنوان "بروكسل". وسار شارل بودلير في المدينة وإن كان قد احتقرها ووصفها بأنها "غير ملحوظة"؛ ربما لأنه فشل في اكتشافها وفهم سرها الغامض ولم يستطع ملاحظة الشعر المخفي في طبيعتها العادية. وفي القرن الماضي جعل الرسام السريالي رينيه ماغريت من بروكسل موطنه، حيث تجسد لوحاته ــ سماء مرصعة بالغيوم وقبعات البولينج العائمة ــ براعة المدينة في كونها مألوفة وغريبة تماماً في الوقت نفسه.
ومدينة بروكسل مدينة متفائلة هكذا يمكن أن نفهم مما يدور في مبنى الاتحاد الأوروبي وهكذا نفهم أيضا من المجسم الحداثي "أتوميوم" ذلك المبنى الذي يعد من بقايا التفاؤل بعد الحرب العالمية الثانية والذي بني من أجل معرض اكسبو لعام 1958 الذي حمل حينها شعار "عالم من أجل حياة أفضل للبشرية". تلألأ كرات أتوميوم التسع في ضوء الشمس، في شهادة على عصر تجرأت فيه البشرية على الحلم بغزو الفضاء وبحلم السلام والديمقراطية والمستقبل. اليوم يبدو المعلم غريبا وكأنه من بقايا مستقبل لم يصل قط.
لا يطيل النهار بقاءه كثيرا حيث سرعان ما يزحف الظلام على المدينة التي تبدو أضواؤها خافتة رغم أنها تستعد لأعياد الكرسمس ورأس السنة بكل ما فيها من صخب وبرد. ومع حلول المساء، تلين المدينة ويصبح بارك دو سينكونتينير، بقوسه النصري الذي يغمره الشفق، ملاذا للعشاق والفنانين والباحثين عن متناقضات المدينة وغرائبها، وتختلط هنا ثرثرة المقاهي المنتشرة في الشوارع بألحان الموسيقيين المتجولين الذين يغنون بلغات متنوعة. وتستطيع أن تسمع بوضوح صوت الحزن المنساب من تلك الألحان وكأن المدينة تتنفس الصعداء بعد ثقل تناقضات يوم حتر لو كان قصيرا ومزدحما بالأحداث.
تتطلب بروكسل من زائرها الكثير من الصبر فهي لا تبهرك مثل باريس ولا تطغى عليك مثل لندن إنها تكشف عن نفسها ببطء، وهو بطء يحتمل ويستحق العناء.. إنها مدينة تدعو إلى التأمل، تأمل التعايش بين الكثير من المتناقضات: بين التاريخ والحداثة، وبين العظمة والتواضع، وبين الهدوء والسكينة، وكل ذلك يحدث في في تناغم مضطرب.