المصري مارك جمال: شغلي الشاغل أن أقدم أعمالا محببة إلى نفسي أشعر نحوها بالألفة
في الأدب، تلعب الترجمة دورًا حيويًا في بناء جسور بين الثقافات، وتقدم النصوص من لغاتها الأصلية إلى جمهور أوسع.
من بين المترجمين الذين تميزوا في نقل العديد من الأعمال الأدبية اللاتينية بذكاء إلى العربية، يبرز اسم المترجم المصري مارك جمال، والذي قال عنه قراء كثر إنه أعاد إليهم الثقة بقراءة المزيد من الأدب اللاتيني بعد أن آثروا الابتعاد عنه.
حاز مارك جمال مؤخرًا على جائزة حمد للترجمة والتفاهم الدولي في دورتها التاسعة عن فئة الترجمة من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية عن رواية «خريف البطريرك» لغابرييل غارسيا ماركيز.
صدر لمارك جمال هذا العام ترجمات لأعمال أدبية عن الإسبانية، منها: (أن تلمس الكتب) لخيسوس مارتشامالو غارسيا، و(بينيه) لأديلايدا غارسيا موراليس، و(اختراع الكتب اللامتناهي في بردية) لإيريني باييخو.
في هذا الحوار، سنتعرف عن قرب على رحلة مارك جمال في ترجمة واحدة من أعظم روايات القرن العشرين، "خريف البطريرك" للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، والتحديات التي واجهها أثناء عملية الترجمة وكيف تغلب عليها خاصة أنها رواية تميزَت بالتفاصيل والتعقيدات السياسية والاجتماعية، كما سنتعرف على ترجمته للقصص القصيرة والشعر، وسنتناقش حول إمكانية الترجمة في توجيه ذائقة القارئ، وغيرها من المواضيع مع صاحب الـ٣٠ ترجمة حتى الآن "مارك جمال".
*********************************************
- فزت مؤخرا بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في دورتها التاسعة عن فئة الترجمة من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية عن رواية «خريف البطريرك» لغابرييل غارسيا ماركيز، وهي رواية تميزَت بالتفاصيل والتعقيدات السياسية والاجتماعية وغيرها... فحدِّثنا عنها.
• الحديث عن «خريف البطريرك»، ولا سيما عن التعقيدات التي تنطوي عليها، لا ينتهي. ومع ذلك، فلقد امتنعتُ طويلًا عن التطرُّق إلى ذلك من قريب أو من بعيد لسببَيْن. أولهما إيماني بأن العمل يتحدَّث عن نفسه. وثانيهما أنني لن أوفي المسألة حقها مهما قلت. ولكني رأيتُ أن من واجبي مشاركة القارئ بعضًا من تلك التفاصيل، ولو بصورة عابرة، بمناسبة الفوز بجائزة الشيخ حمد عن هذه الترجمة. على كل حال، ربما كانت «مئة عام من العزلة» أنجح روايات غابرييل غارسيا ماركيز وأكثرها شعبية، ولكن «خريف البطريرك» هي الأكثر نخبوية و«الأوفر حظًّا من التجريبيَّة»، «إنه الترف الذي سمح به لنفسه مُؤلِّف «مئة عام من العزلة» حين قرَّر أن يكتب ما يريد أخيرًا»، كما جاء على لسان غارسيا ماركيز، ولا يخفى على أحد أنها الرواية الأثيرة لنفسه من بين ما كتب.
*********************************************
- ما الصعوبات التي واجهَتك في هذه الترجمة؟
• لـ«خريف البطريرك» مفاتيح ومستويات كثيرة لا يتَّسع المجال لحصرها، من بينها المستوى الشعري: إذ تتميَّز هذه الرواية بلغة شعرية دفَّاقة يشقّ على المترجم نقلها من دون أن تفقد الرشاقة والزخم. بل إن غارسيا ماركيز قد وصف «خريف البطريرك» بأنها «قصيدة في عزلة السلطة»، و«مغامرة شعرية»، الشيء الذي نلمسه أيضًا في أبيات الشعر المُقتبَسة التي يطعِّم بها السرد، بلا أدنى إشارة إلى المصدر.
زد على ذلك الإحالات السياسية والتاريخية الحاضرة بقوة، فنرى المُؤلِّف ينسب جانبًا من صعوبة العمل إلى تلك «الحمولة الهائلة من الخيال التاريخي». ما يفسِّر كثيرًا من الإشارات العصية على الفهم بمعزل عن سياقها. ولا ننسَ الإحالات الدينية. إذ تكثر مواطن التناص بين «خريف البطريرك» والكتاب المُقدَّس، ونجد الرواية حافلة بالآيات والإحالات الدينية التي يوردها المُؤلِّف بين السطور بلا أدنى تصريح منه بذلك. الأمر الذي تطلَّب معرفة واسعة بالخلفية الدينية للكاتب والبحث المُطوَّل في المراجع ذات الصلة. أضف إلى ما تقدَّم الأساطير، والأغاني الشعبية، والموسيقى، وعنصر السيرة الذاتية الحاضر بقوة في الرواية (علمًا أن الكاتب قد استقى من تجاربه الحياتية قدرًا كبيرًا من تفاصيل الرواية، ما استلزم الاطلاع على سيرته الذاتية والكثير مما كُتِب عن حياته الشخصية في شتَّى المصادر)... وغير ذلك من الإحالات والصعاب والإشكاليات التي لا يتَّسع المجال لذكرها. ولذا أكتفي برؤوس الأقلام التي أشرتُ إليها بإيجاز.
*********************************************
- كيف تمكنت من التغلُّب على تلك الصعوبات؟ وكم استغرقت رحلة ترجمة «خريف البطريرك»؟ ضعنا في تفاصيل هذه الرحلة.
• لقد عكف غارسيا ماركيز على قراءة كل ما كُتِب عن ديكتاتور أمريكا اللاتينية على مدى سنوات طوال، واطَّلع على كل المستندات ذات الصلة، حتى يقدِّم للقارئ «توليفةً من طغاة أمريكا اللاتينية جميعًا»، على حدِّ قوله. وهكذا كان البحث الدؤوب الجاد واحدًا من أهم مفاتيح «خريف البطريرك»، كتابةً وترجمةً. فأنا لم أجد إلى ترجمة هذا العمل طريقًا أفضل من الاستغراق في البحث والقراءة المُتأنِّية والاطلاع على كل أعمال المؤلف وكل ما تيسَّر من لقاءاته وما كُتِب عنه وعن «خريف البطريرك» بشتى اللغات لمدة عام كامل. رحتُ أنقِّب عن الكلمة الواحدة في الأعمال الكاملة للمُؤلِّف. كما راجعتُ الترجمة مرات ومرات، حتى وصلت إلى نتيجة ترضيني، وإن يكُن في حينه. فأنا كلما عدتُ إلى ترجمة سابقة، لم أقنع بها أو أرضَ عنها. ربما كان ذلك شيئًا مُحبِطًا، وربما كان دليلًا على أن المترجم ما زال يتعلَّم ويكتسب خبرات ومعارف جديدة.
*********************************************
- هل أجريت تعديلات لضمان فهم أفضل للقارئ؟
• الترجمة لا تقبل التدخُّل أو التعديل. ولكن وفاء المترجم لا يعني النقل حرفًا بحرف وكلمةً بكلمة. فلا أضعف ولا أشدّ خيانة لروح النصّ الأصلي ولا أثقل على نفس القارئ من الترجمة الحَرفية. الترجمة عمل إبداعي لا يقتصر على النقل. وقد يقول قائلٌ: إن أجود الترجمات ما نقل روحَ النص نقلًا وافيًا. ولكن كيف نتحقَّق من ذلك؟ لعلّ انطباع المُتلقِّي خير دليل على وفاء الترجمة لروح النص الأصلي. ولا أنسى عندما قال لي إكتور آباد فاسيولينسي -صاحب «النسيان»، أول كتاب أترجمه- في زيارته إلى القاهرة: «لقد رأيتُ «النسيان» في أعين القُرَّاء باللغة العربية».
وبالعودة إلى «خريف البطريرك»، فلقد اجتهدتُ حتى أصل إلى الدقة التي أرضى عنها، وبذلتُ كل ما في وسعي كي أنقل إلى القارئ معاني النصِّ وموسيقاه، كما حرصتُ على مراعاة مستويات اللغة المُتعدِّدة على كثرتها. حتى الألفاظ النابية السوقية توخَّيتُ ترجمتها بلا تخفيف ولا مداراة، كما جاء في الأصل. وحتى المقاطع الركيكة الحافلة بالأخطاء المُتعمَّدة، الواردة على لسان الديكتاتور الذي لا حظّ له من التعليم، راعيتُ نقلها كما أراد لها المُؤلِّف، مع الإشارة إلى مواضع اللبس والغموض في الهوامش لضمان الفهم.
أتمنَّى أن أكون قد وُفِّقتُ إلى كلِّ ذلك، أو إلى شيء منه.
في جميع الأحوال، أرفض أن يتدخَّل المترجم في النص أو أن يفرض رأيه وتصوُّره الشخصي رفضًا قاطعًا. أما الهوامش، فضرورة يفرضها النصّ في بعض الأحيان، على الرغم من اعتقادي بأنها إضافة غير محمودة. ويشفع لها أن القارئ يملك مطلق الحرية في تجاوزها. زد على ذلك أنني لم أجِد بديلًا عن الهوامش أمام الغموض الذي يكتنف الرواية.
*********************************************
- حازت ترجمتك لـ«خريف البطريرك» على إشادة واسعة من النُقَّاد والقُرَّاء، كيف شعرت إزاء ذلك؟
• أشاد بهذه الترجمة قُرَّاء أعزَّاء أثق وأعتزّ برأيهم كثيرًا. ومع أنها لم تُقرَأ بالقَدْر الذي تستحقّ حتى الآن، فقَدَرُ الكلاسيكيات أن تعيش أبدًا. وعلى كل حال، «فلطالما كان أولئك الذين يعرفون أين ينظرون وكيف ينصتون قلةً قليلة، إنها الحقيقة. ولكن أفضل القصص تكفيها قلةٌ قليلة»، كما جاء في ختام رواية «متاهة بان» لـغييرمو دِل تورو.
*********************************************
- هناك قُرَّاء يقولون إنك أعدت إليهم الثقة بقراءة المزيد من الأدب اللاتيني بعد أن آثروا الابتعاد عنه، هل بوسع الترجمة أن توجّه ذائقة القارئ فعلا؟
• ممتن لثقة القُرَّاء وحبِّهم. لقد تذوَّق القارئ آدابَ أمريكا اللاتينية وإسبانيا أول ما تذوَّقها مُترجمةً بأيدي روَّاد المترجمين الذين أسير أنا وأبناء جيلي على خطاهم. وأرى في حركة الترجمة، وفي طبيعة آداب أمريكا اللاتينية وإسبانيا، ما يضمن استمرار هذه الصلة الوثيقة.
ومن جهة أخرى، نعم، أرى أن الترجمة قادرة على توجيه دفَّة الذائقة، فمتى وثق المُتلقِّي باختيارات المُترجِم، أصبح مُهتَمًّا بمتابعة إصداراته بغضّ النظر إلى اللون الأدبي الذي ينتمي إليه النصّ. وذلك شيء لمستُه في كثير من القُرَّاء.
*********************************************
- لا يشكرك القُرَّاء على النقل بذكاء إلى العربية وحسب، بل أيضا على الاختيار، وكنت قد قلت إنك تترجم ما تحب. أليست المسؤولية مضاعفة عندما لا تقتصر على الترجمة الجيدة، بل تمتدّ إلى دقة الاختيار أيضا؟
• صحيح. إنها مسؤولية أمام القارئ وأمام نفسي أولًا. ما يجعلني أشدّ حذرًا في اختياراتي. ولكني أرى في ثقة المُتلقِّي فرصةً لتقديم ألوان مختلفة من الأدب وأسماء جديدة لم تُترجَم حتى الآن. يهمّني أن يحبّ القُرَّاء ما أترجم، وأن تكون الترجمة نابعة عن اهتمام شخصي واقتناع في المقام الأول. تجدر الإشارة إلى أن المترجم قد لا يختار الأسماء الغنية عن التعريف ذات الشهرة الذائعة والنجاح الطاغي، ففي تلك الحالة غالبًا ما يبحث الناشر عمَّن يؤدِّي المهمة على أكمل وجه ويعهد إليه بالترجمة.
*********************************************
- يتجه القُرَّاء إلى الرواية أكثر من القصة ومع ذلك ترجمتَ قصصًا قصيرة، إلى أي مدى تشعر أنك تخوض تحديا في هذا السياق؟
* تصنيفُ العمل آخر ما يهمّني. أعود إلى الترجمات التي قدَّمتُها فأجد بينها الرواية والقصة والشعر والسيرة والمراسلات والدراسة والمقال... ولكني لم ألتفت إلى ذلك التصنيف يومًا. شغلي الشاغل أن أقدِّم أعمالًا مُحبَّبة إلى نفسي، أشعر نحوها بالألفة وأهتمّ بمشاركة الآخرين إياها. كما يهمُّني التنوُّع في الاختيارات، وتقديم ألوان جديدة لم تطرقها الترجمة إلى العربية، وأسماء لم تنَل ما تستحقّ من التقدير.
وعلى الرغم من ذلك، فربما تأثَّر قرار الناشر والقارئ بتصنيف الكتاب في بعض الأحيان. وهنا يكمن التحدِّي الذي أشرتِ إليه: في إقناع الآخرين بقيمة تلك الأعمال وأهميتها.
*********************************************
- كيف ترى ترجمة الشعر، وقد ترجمت قصائد لأنخل غونثالث؟ ما الفرق الذي تجده أو تكابده بين ترجمة هذا أو ذاك؟
• لطالما استنكرَت بعضُ الأصوات ترجمة الشعر، فهذا الجاحظ يقطع باستحالة ذلك في قوله: «والشِّعرُ لا يُستطاع أنْ يُترجَم، ولا يجوز عليه النقل. ومتى حُوِّل تقطَّع نظمُه، وبَطُل وزنُه، وذهب حُسنُه، وسقط مَوضِعُ التعجب». أما أنا فلا أرى اختلافًا جوهريًّا بين ترجمة الشعر وترجمة النثر. ولكن طبيعة النصِّ تفرض صعوبات بعينها، فالشعر يغلب عليه التكثيف، ويكتسب الإيقاع والموسيقى فيه أهميةً كبرى، أضف إلى ذلك أنه قد ينطوي على كثير من الغموض والإبهام، وقد يقبل تأويلات كثيرة... وغير ذلك من العوامل التي تفرض على المترجم صعابًا جمَّة وتعقيدات مضاعفة. قد لا يخلو النثر من تلك السمات، إلَّا أنها أكثر حضورًا وأشدّ سطوعًا في الشعر.
وربما قال قائلٌ: إن الشعر لا يُترجَم، ولكنه يُنظَم من جديد. أما لو «ذهب حُسنُه وسقط مَوضِعُ التعجب»، فربما أضفَت عليه الترجمةُ حُسنًا جديدًا يضاهي حسن النص الأصلي، وجعلَت فيه مواضع تعجب أخرى لا تختلف بالضرورة عن تلك الأصلية، وإنما تقابلها وتكافئها في اللغة والثقافة المُترجَم إليهما.