No Image
ثقافة

«الشيخ الأحمر» .. درس عباس بيضون الروائي

06 أكتوبر 2024
06 أكتوبر 2024

يمنحنا الكاتب اللبناني عباس بيضون درسا بليغا في الكتابة الروائية المُحكَمة، بناء ولغة وتدفقا وكشفا لنفسيات الأبطال ودوافعهم، في روايته الجديدة «الشيخ الأحمر». وبرغم قصر الرواية «النوفيلا» إلا أنها حققت عنصري الإشباع والإمتاع، كما أن المكان المتسع في الرواية، الذي يمتد من «النجف» في العراق إلى «جباع» في لبنان، وكذلك الزمان المنفتح على الحقبة العثمانية، كانا من الممكن أن يغريا روائيا أقل خبرة، بتوسيع قماشة العمل ونفخه حتى يصبح عملا ضخما ترحب به الجوائز.

ليست هناك ذروة معينة استهدفتها الرواية، فالكاتب اختار رجلا لبنانيا، هو «عبد الحسين»، كان لديه طموح بأن يصبح رجل دين، فذهب إلى «النجف»، وتزوج من عراقية اسمها «خديجة»، وتمنى أن يكمل حياته في الغربة، فهناك ثمة رجل دين تحت كل حجر، وهو بينهم مجرد شيخ عادي، لا يطالبه أحد بالحديث المنمق، ولا ينتظرون مشورته في مسائل الدين والدنيا، بينما لو ذهب إلى قريته «جباع»، كما يطالبه أهلها، يصبح عاريا تحت الشمس. إنه يرغب في أن يقضي حياته صامتا، لكنه بمجرد أن يفتح فمه، يتلعثم ويرتبك ويضيع بين الكلمات، فما حاجته إلى وجع الدماغ؟ لكن العودة، على ما يبدو، أصبحت قدره فعاد.

وبفرشاة الفنان يرسم عباس بيضون شخصيات بيت الشيخ عبد الحسين، وعلى رأسها زوجته خديجة، وهي امرأة هادئة ومسالمة، تترك له العنان يفعل ما يشاء، حتى لو كان الأمر يتعلق بعلاقاته الحسية مع أرامل ومطلقات القرية، فهي تؤمن مثل بقية الأهالي أن ذلك سُترة لهن يشجعها الدين، لكن أختها «عاصمة» المرأة المطلقة تكره تصرفاتها وتعنِّفها أحيانا، لكنها سرعان ما تؤمن بأنَّ شيئا لن يتغير في سلوكها، فتتركها لحالها، وتضطلع بدلا منها بشؤون البيت، ورعاية الأبناء.

يقترب السرد كذلك من نفسية «آمنة» ابنة الشيخ، ذات الخمسة عشر ربيعا. من خلالها يمكن فهم تلك التربية المتزمتة، تربية التحريم، التي تُعاقِب على أتفه الأشياء، فالخالة «عاصمة» توبِّخها إذا مسَّت الصابونةُ جسدَها، فماذا يقول الناس عن تلك الفتاة التي يفوح منها العبير؟ ويبرع عباس بيضون في إظهار التناقضات الشديدة في سلوك معظم الكبار، فـ«عاصمة» الخالة التي تضع «آمنة» تحت حراستها المشددة، لا تتردد في إظهار شبقها تجاه «عبد الفضيل» خطيب تلك الفتاة الصغيرة، والشيخ عبد الحسين لا يتردد في المرور على أجساد النساء باسم الدين، وباسم الحماية من الرذيلة. ومع تهتكه الشديد، إلا أنه كان عنيفا فيما يخص الدين، يرفض أي كلام عن التجديد فيه، فالدين ثابت وأي مساس به هو عبث غير مقبول، ثم إن تعمقه في الفلسفة لم يطوِّر شيئا في شخصيته، بل أكسبه فقط ذلك اللقب الذي أحبه رغم أن مَن أطلقوه عليه كانوا يقصدون التندر وهو لقب «الشيخ الأحمر»!

يضع عباس بيضون بطلتيه، آمنة وخالتها عاصمة، في الاختبار نفسه تقريبا، فآمنة تتعرض لفجيعة كبرى حين يموت حبيبها عبد الفضيل بمرض تشمُّع الكبد، ثم يظهر في منام الجميع، بعد رحيله، موصيا بأن تتزوج شقيقه أيمن، ويضعنا عباس بيضون في لُجَّة مشاعر آمنة، وترددها بين القبول والرفض، وأسبابها في كل مرة للابتعاد من أيمن أو الاقتراب منه، فأيمن ليس عبدالفضيل، وهي ليست بديلا جاهزا لأحد، أو غرضا يمكن نقله من شخص إلى آخر، لكنها تتجه في النهاية وبعد مكابدات مضنية باتجاه أيمن الذي يتحرر كذلك من وصية شقيقه بشكل كامل بعد أن يدرك أنه شخص مستقل لا يمكن لميت أن يحركه من العالم الآخر!

أما عاصمة ففجيعتها الكبرى كانت موت شقيقتها بمضاعفات السكري، وهكذا يخلو البيت عليها، وتصبح أمام تحدٍ من نوع غريب، فقد كانت هي السيدة الحقيقية لهذا البيت، وتدير شؤونه نيابة عن أختها، لكنها لم تكن تتحكم في الداخلين والخارجين وخاصة نساء عبد البصير، لكنها قررت أن تأخذ دورها الكامل، فماذا يقول الناس عنها وقد أصبحت بمفردها في بيت الشيخ عبد الحسين؟ ضيقت الخناق على جميع النسوة وحددت لهن مواعيد للحضور، ثم واجهت نفسها بمشاعرها المتدفقة تجاه عبد الحسين، وسألت نفسها: هل يمكن أن تحل بديلة لشقيقتها؟ وقد أطلعنا الكاتب على العاصفة النفسية التي مرَّت بها حتى اهتدت إلى البر، مقررة أنها لن تخون شقيقتها مهما حدث، مواصلة إيثار الجميع على نفسها، بمَن فيهم خديجة الميتة!

هذه الرواية نموذج للفن الراقي، القادر على أن يجعلنا أكثر فهما لأنفسنا، ولتناقضاتنا، ولتصرفاتنا الغريبة، وللحياة والناس من حولنا. رواية مدهشة قادرة على أن تأخذك بعيدا في الزمان والمكان.