No Image
ثقافة

الأسطورة ومساءلة الوعي

09 يوليو 2024
09 يوليو 2024

منذ روايته الأولى «جنرال الجيش الميت»، أفرد الروائي الألباني إسماعيل كاداريه (28 يناير 1936 - 1 يوليو 2024) لنفسه مكانة كبيرة على خارطة الأدب في العالم؛ إذ استطاع هذا الصوت الآتي من وراء «الستار الحديدي» -(كانت ألبانيا يومها جزءا من «المعسكر الاشتراكي» وقد عُرف عنها انغلاقها الكبير)- أن يخترق العديد من الدوائر المغلقة، ليثبّت قدميه على أرض الكتابة التي أخلص لها طيلة حياته، على الرغم من قوله عن «وظيفته ككاتب» عام 2016: «لا أقول إنني فعلت ذلك بشكل جيد، لكن أجرؤ على القول إنها آلمتني (الكتابة)».

مع هذه الرواية «الساحرة» الأولى، ذهب كاداريه إلى زيارة التاريخ من جديد، ليعيد كتابته وفق «أسطورته» الخاصة؛ فكتاب «جنرال الجيش الميت» (نقله إلى العربية عبد اللطيف الأرناؤوط، وصدر عام 1981 في دمشق) يستعيد تلك اللحظة الألبانية خلال الحرب العالمية الثانية، لحظة احتلال جيش موسوليني لها. ألبانيا التي يصفها كاداريه بأنها المنطقة الخالدة الغارقة في المطر والضباب والثلج، والتي يمتزج فيها الطين بالذكريات.

ذات يوم، يُكلّف جنرال إيطالي بمهمة غريبة، هي مهمة قاتمة أيضا: نبش الهياكل العظمية للجنود الذين ماتوا على الأراضي الألبانية (خلال الحرب الأولى، زمن السلطنة العثمانية) لإعادتهم إلى عائلاتهم، وباختصار، كانت المهمة التي كُلّف بها، تتلخّص بمنح هؤلاء الجنود الشجعان دفنًا لائقًا، وإعادة الموتى إلى الأرض التي ولدوا فيها، وقد مثلت للجنرال مهمة مشرفة سعى إلى إنجازها بغيرة وفخر. صحيح أن مخاوف جمّة اعترضته، منها على الأقل الخشية من هذه الجبال الشاهقة والأرض الموحلة أو المتجمدة، التي تثير الرعب في أن ينقلب أعلاها إلى أسفلها، لتغرق الجميع. بمعنى آخر، كانت ألبانيا، بلدًا «غير مضياف» بالنسبة إلى الغرباء، لكن ما أدركه الجنرال متأخرًا هو أن «هذه الدولة القاحلة والسوداء» هي التي شكّلت مصير هذا الشعب المأساوي، الغارق «في كراهية صامتة لأعدائه السابقين»؛ لذا يفقد الجنرال، طيلة الرحلة، هذا التفوّق العسكري ليصل إلى درجة الانحدار الكامل، وينتهي به الأمر أيضًا إلى معرفة هزيمة أكبر، وحتى إلى موت أعظم من موت جيش هذه الهياكل العظمية المدفونة، ليدفن جيشه بدوره.

بين التاريخ والأسطورة، دارت الكثير من روايات إسماعيل كاداريه، من مثل «من أعاد دوروتين» و«طبول المطر» و«الحفل» (تُرجمت كلها إلى العربية) و«آخيل الخاسر الأكبر»، و«فصل سيئ على جبال الأولمب» وغيرها الكثير؛ وكأنه بذلك كان يرغب -ليس في تقديم وجهة نظر شخصية بالأحداث التي مرّت على بلاده- وإنما «معارضة التاريخ الرسمي» الذي يُكتب في الوثائق الرسمية، ليأخذنا برحلة إلى إعادة مساءلة الوعي في الكثير من الأحيان؛ لأن الوعي الرسمي يكتبه الحاكم بينما ما يجري في الواقع مختلف جدا. ربما يمكن ردّ ذلك إلى فكرة أساسية في كتابة كاداريه وهي ممانعته الدائمة لعقائد الواقعية الاشتراكية التي كانت سائدة لفترة طويلة في بلاده لكونها «الحقيقة الأدبية الوحيدة». ولو أعدنا قراءة أعمال الكاتب اليوم لوجدنا أنه من الصعب جدًا قراءة الواقع فيها، وكذلك من الصعب أيضًا إثبات الحقائق، فالحزن المنتشر هو «أمر اليوم» (وفق التعبير العسكري). هل لذلك تدور غالبية أعماله في فصل الشتاء، وكأن لا ربيع في الأفق؟ ما من أبطال مثاليين في رواياته، وغالبًا ما تكون النهايات «غير سعيدة»، بينما الزمن لا يتوقف عن أن يكون دائريا (وكأنه يُستعاد دوما)؛ لأن هذا الزمن الدائري هو الذي يواجه «مسيرة التاريخ» (التي تريد أن تتقدم إلى الأمام) والذي يَعتبر السلطة (الاشتراكية يومها) مظهرًا من مظاهر الفساد والشر، لذا فإن التفاؤل أو «المستقبل المشرق» غير موجودين على الإطلاق.

كلّ كتابات كاداريه، في تلك المرحلة الألبانية (أي قبل طلبه اللجوء السياسي إلى فرنسا مع بداية العام 1990)، تأتي من ثقافة لها جذورها المخالفة، عن الثقافة الرسمية في بلاده، وقد ذهب إلى اعتبار أن هذه الثقافة التي حصّنته بعوالمها الأدبية المذهلة، هي ثقافة «مقدسة». ولنقل مجازًا أن «آلهته» كانوا أسخيليوس وهوميروس وشكسبير ودانتي وثربانتس وغوغول وكافكا (الذي قرأه خلال إقامته للدراسة في موسكو) دون أن ننسى بالطبع الأساطير الألبانية التي أراد النظام الاشتراكي القضاء عليها باعتبارها «بقايا قديمة وخرافية»، بيد أن الكاتب كان يجدها أساسية للحياة وللكتابة، معتبرًا إيّاها «أوعية للحكمة العظيمة». من هنا استلهمها في روايتين أساسيتين على الأقل: أسطورة «قلعة الروزوفات المسورة» في رواية «الجسر ذو الأقواس الثلاثة» (1978) وأسطورة قسطنطين ودوروتين في كتاب «من أعاد دوروتين؟» (1980). ولكنه أيضا استفاد من الأسطورة الإغريقية كما في روايته «ابنة أغاممنون» (1985) على سبيل المثال التي كتبها بالسرّ في تيرانا، لتُنشر بداية في فرنسا لا في بلاده.

لكن الأسطورة هنا أيضا، تريد أن تعيد زيارة التاريخ الحديث بكلّ ما كان يفعله الكاتب، وهو التورية للهروب من الصدام مع النظام الحاكم، فتدور أحداث هذه الرواية في ألبانيا في السنوات الأخيرة من حكم النظام الشيوعي. لم تكن عشيقة الراوي سوى ابنة خليفة الطاغية المستقبلي، الذي أقنع ابنته بإنهاء هذه «القضية» إذ يمكن لها أن تضرّ بحياته المهنية. ومع ذلك، وفي الوقت عينه يتلقى هذا الشاب دعوة لحضور العرض الذي كان سيقام في الأول من شهر مايو (بمناسبة عيد العمال)، في المنصة الرسمية ما كان يعتبر امتيازًا يُحسد عليه.

وأمام كل تلك الأحداث، لم يجد العاشق أمامه سوى أمر واحد: التأمل في هذا العار والخزي اللذين لحقا به، من هنا يعود ويستحضر إيفيجينيا (من الأسطورة الإغريقية) التي ضحى بها والدها. إذ كما نعرف رفض أغاممنون عملية تبادل سجناء بابنته، مثلما رفض ستالين عملية تبادل سجناء ألمان بابنه الأسير. كل ما كان يطرحه كاداريه هو هذا التساؤل العميق: ماذا لو كانت التضحية لا تعني شيئًا سوى إرادة من هم في السلطة لتدمير الإنسانية جمعاء عبر أولئك الذين يخدمونها، من حيث المبدأ؟

قِسم كبير من أدب إسماعيل كاداريه كان يكمن في هذا الحيّز: إدانة آليات النظام الشمولي، بقوة نادرة وكذلك آليات الخضوع والضعف والتواطؤ.