الأسطورة.. الخرافة.. الأدب
لا شك أن كتاب موروفولوجيا الحكاية الخرافية لفلاديمير بروب، وجهتنا في تحليل وظائف السرد وعناصر بناء الحكاية في القصّ. أخذ الاهتمام بهذه العناصر البالغ عددها إحدى وثلاثين وظيفة يزداد لدى الباحثين، عوضا عن المبدعين الذين يهتمون بتكوين عناصر حكائية أقرب إلى الصرامة توخيا لتثبيت أو تحقيق الوظائف كما ذكرها بروب.
وظهرت على حدّ علمي ثلاث ترجمات للكتاب، الأولى (مورفولوجيا الخرافة) لإبراهيم الخطيب في المغرب عام 1988م والثانية نشرها النادي الأدبي في جدة حسب الترجمة الشائعة بعنوان فلاديمير نفسه عام 1989م أما الثالثة (مورفولوجيا القصة) وترجمها كل من د. عبدالكريم حسن، ود. سميرة بن عمّو في عام 1996م.
استوقفني في أثناء قراءة كتاب (بنية النَّص الفنَّي- دار التكوين للتأليف والترجمة النشر-ط1-2020م) لمؤلفه الروسي يوري لوتمان، الذي قام بترجمته إلى اللغة العربية د. عبدي حاجي عن اللغة الأصلية للمؤلف إشارة وردت في (ص36) تلحق لفظة "السحرية" إلى كتاب فلاديمير بدل "الخرافية"، فيكون اسم الكتاب هو: مورفولجيا الحكاية السحرية.
فهل ثمة معنى واسع وعميق ما بين لفظتيِّ "الخرافية" أو "السحرية"؟ وهل الخرافة أكبر من السحر؟ فهذا قد يجعل أن تتجه المخيلة أو ذهنية المتلقي وكذلك الناقد أو الباحث على وجه العموم إلى وجود اشتغال مختلف؛ إذّ يمكن الاعتقاد أن السحر يدخل في تكوين الخرافة، وهذه بدورها تتجه إلى تكوين أحد أجزاء الثقافة الشعبية، وذلك بالاستناد إلى فصلٍ عَنونَ به الباحثان سمير المرزوقي وجميل شاكر في كتابهما (مدخل إلى نظرية القصَّة تحليلا وتطبيقا 1985م) كان العنوان "التحليل الوظائفي للحكاية الشعبية التونسية"، فهذا الاعتقاد يُمكن أن يُبنىَ عليه، أن القصص والحكايات ذات البعد الغرائبي غير القابلة إلى التصديق، تتنزّل في صفات السحر، أما كل الموروث الثقافي المادّي وغير المادّي، فيتنزل في الثقافة الشعبية العامة. فهل كانت ستخلف قراءتنا إذا كُتبت "السحرية" على الغلاف؟ وهل ثمة هناك ما سوف تستدعيه مخيلة القارئ من عناصر محددة؟ ألا يمكن تصوّر وجود رغبة ما في عقل نظام لغة فهم ووعي المترجم (سواء في الترجمتين للكتاب من اللغتين الإنجليزية والفرنسية) إلى تثبيت تقليد ما، أو تعزيز صورة ما لثقافات الشعوب، وأن تحقيق ذلك ما كان ليكون إلا بإزاحة لفظة "السّحرية" واستبدالها باللفظة الأخرى؟ دون إغفال أن اللفظتين (سحرية أو خرافية) تشيران إلى الحدود غير القارّة في ثقافات الحضارات.
يُفرّق العرب بين لفظة الأساطير ولفظة الخرافة. ففي معجم السرديّات: "كلمة خرافة تطلق على الحديث المستملَح من الكذب"، وعلى الرغم ما يكون في الكذب من عيوب ورذائل، إلا أن للأسطورة شأن آخر. فالموقف من الأساطير بحسب المعجم عدّها الراسخون في الدراسات المعجمية: "عين الحقيقة في نظر أصحابها"، ما يشيء إلى ترجيح فعاليّة اشتغال المخيلة، فلا تكون كالخرافة كذبا مستملحا! فعندما يرد الإخبار عن تراجيديات ومآسي مجتمع الإغريق (ق.م) فإنّها بتعبير صمويل نوح كرامر "تتألف من قصص الأبطال والأرباب مولدهم وموتهم وحبّهم وبغضهم وأحقادهم ومؤامراتهم وهزائمهم وأعمال الخلق والتدمير"، فإنه غالبا ما يُنظر إليها بنوع من الاستخفاف أو الاستهجان! وهذه النظرة تكشف عن حدوث تحولات تلقي مختلفة تحصل في ذهنية استقبال الشعوب للمختلف والغريب.
وإذا عدنا إلى معنى الحكاية الشعبية، فمعجم السرديات يشير إلى أنها موغلة في القدم. وأن ثقافات الشعوب يحضر فيها أنواع مختلفة للحكايات الشعبية ضمن وظائف ورمزيات متباينة، "فمن الحكايات الشعبية ما يعبر عن تمسك الذاكرة الجماعية بتاريخها الخاص. وقد تتضمن، علاوة على إضاءة الأصول، رسما لمعايير اجتماعية وأخلاقية...إلخ، وفي موضع آخر يمنح معجم السرديات اتساعًا أكبر لمعنى الحكاية الشعبية، إذّ يُضمّن في داخلها الخرافات التي تكون "ذات شحنات تصويرية عالية الرمزية مشابهة لما نجده في الأحلام والشعر".
وبتعريف معجم السرديات للخرافة فإنّها تتميز بعدة خصائص؛ كالطول وتعقيد بِنيتها، وأن لكل راوٍ في مجال ثقافي محدّد صيغ مألوفة للابتداء والاختتام، وأن سردها يتميز في الغالب بامّحاء الراوي وراء سرد موضوعي خال من العلامات المباشرة...إلخ، والذي يُعنينا من مجمل تلك الخصائص أن الخرافة "لا تخضع إلا لمنطق خاصّ، هو منطق الخرافة [...] ويتسم عالمها بخرق نظام الكون المألوف. فالشخصيات البشرية والحيوانية تتفاعل مع شخصيات غريبة لا حدّ للمخيلة في تشكيلها من حيث الحجم والصوت والحركة".
ضمن سلسلة (من المسرح العالمي) التابع لمشروع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت ألحق د. سعيد كريمي مقدمة ودراسة نقدية قيّمة لمسرحية "كاياس أو الحصاة-رقم العدد 399-2019م" تأليف الروائي والمؤلف المسرحي الفرنسي (لوران غودة). المسرحية ترجمها من الفرنسية (سعيد بوكرامي)، وراجعها (أحمد الويزي). ومن ميزات هذا النص كما جاء في تقديمه أنه "يُعد مرافعة مسرحية، وفنية قوية عن الحقوق الفلسطينية المسلوبة، وفضحا للمارسات اللاإنسانية التي تقوم بها السلطات الإسرائيلية المحتلة، في حق السكان الفلسطينيين العزل...إلخ". بالإضافة إلى ذلك -وحسب تقديري- فإن المسرحية تُعدُّ نموذًجا تفاعليًا للعلاقة الجدلية الحاصلة بنيويًا ما بين الأسطورة والخرافة. تتألف المسرحية من أربعة فصول: "الأب طريح الأرض، المفاتيح المرفوضة، اللعينة، والعروس الممزقة"، أما شخصياتها فيصل عددها إلى العشرين شخصا، من بينهم "طفل الأنقاض أو طفل الحجارة الذي يتحدث بمفردات مفككة كالأطفال. تحكي المسرحية عن "عائلة فلسطينية موزعة بين المنفى، وأرض الوطن"، والناظر اليوم إلى فلسطين أو إلى غيرها من البلاد العربية، يكاد كلّ بيت صار يعاني أهله من القدر المأساوي الذي في النادر ما تأخذ الدراما العربية الالتفات إلى تناوله بجدّية أو موضوعية كبيرة.
من خلال المقاربة الأسطورية يشدّنا المؤلف شدًا إلى الدخول في عالم متخيل فيه من الواقع حقيقة معروفة للجميع هي (احتلال فلسطين)، ثم يجعلنا في ذلك الدخول أن نشاهد كيف تعتمل الصراعات ما بين من هم في فلسطين ومن هم خارجها، حيث يلتفون حول الحلم بالعودة إلى الأرض واللقاء بعد الشتات والتهجير في المنافي، فتكون هنا وظيفة الأسطورة ممثلًة في كاياس؛ "هذا الكائن الأسطوري والخرافي، المتمثل في طفل الحجارة الذي سيشكل منعطفا أساسيا في التاريخ النضالي الفلسطيني...إلخ"، وهذا ما نشاهده عندما يحمل طفل الأنقاض عديلة على ظهره.
بحلول يوم الأرض الفلسطيني الذي يصادف 30 مارس من كلّ سنة وبمرور (45) سنة على أحداثه التي انطلقت في 1976م يكون لكلمات طفل الأنقاض أو كاياس دلالتها العميقة، فحينما تسأله عديلة إلى أين يأخذها؟ يجيبها: "هناك. إلى موطننا. أعبر الأمكنة كلها. أتزحلق. أركض. أسير في الطرق. كل الطرق. لا أحد يوقف أنا".
*