إلى هلال البادي: نعم أسمِّيها مسرحية !
يضع الكاتب العماني هلال البادي عنواناً لكتابه الجديد في صيغة سؤال هو: هل تسمِّي هذه مسرحية؟!" وهو يوجِّه هذا السؤال غالباً للقراء، أو للنقاد، أو لنفسه؟
لم يكرر هلال ذلك العنوان في الداخل، فالمسرحيتان اللتان يضمهما الكتاب هما "حكاية؟! هل هناك حكاية؟" و"نهاية ناقصة لكنها مكررة"، وسأركز كلامي على الأولى لأن التركيز على الاثنتين يظلمهما معاً.
وسبب تساؤل هلال هو أنه – ربما - ليس لديه يقينٌ كاملٌ بأن عالمه، وطريقة بنائه، وشخصياته، وعبثه، وجنونه، بإمكانه أن يقدم ما يسمَّى بـ"المسرحية". إنه يسأل كل قارئ للكتاب: هل ما قرأته للتو مسرحية؟ أم أنه فنٌ آخر؟ نص عابر للأنواع مثلاً؟
تبدأ المسرحية القصيرة الجميلة بمشهد يضعنا في قلب الحدث، مشهد يجمع الخيَّاطة بالدُمى، أو "المانيكانات" التي تعرض عليها الخيَّاطة أزياءها. بمجرد أن تغفو الخيَّاطة تدبُّ الحركة في أجساد الدمى، ويدور حوار بينها، فدميتان تريان أنهما لا بد أن تثورا على أوضاعهما، وتتقاسمان الكلام عن الأمل والحب والحرية، بينما تنحاز الدمية الثالثة إلى السكون، وتفضِّل الاستمرار في الحياة على نفس المنوال. تذكِّر زميلتيها بأنهم جميعاً كانوا مركونين في المخزن، وإن كان هناك شخصٌ يستحق التضحية لأجله، لا الثورة عليه، فهو الخيَّاطة. تلك السيدة الجميلة التي خلَّصتهم من غبار الركنة وسوء التخزين وعدم الحركة إلى فضاء الحياة والأحلام.
يستمر الشجار، ومعه تستمر معرفتنا بما يدور في "عقل" كل دمية، ومدى تمسكها بموقفها، لكن الدمى تعود إلى الصمت والسكون حين تستيقظ الخيَّاطة، أي أن على أحد الطرفين ممارسة الحركة والحياة والكلام ليتوقف الآخر عنها، كأن الواقع والفانتازيا لا يختلطان. الواقع في بُعدٍ والفانتازيا في بُعدٍ آخر. خلق هلال البادي الصراع من اللاشيء، فمن كان يتصور أن تهدر المانيكانات بالحياة، وتمنحنا رغبة حقيقية في مرفة ماذا سيحدث وهل يتغير الواقع؟ هل تعرف تلك الخيَّاطة بما يدور في "عقول" مانيكاناتها؟ أم تستمر في تخيل أنها مجرد فتارين لعرض الأزياء الرائعة؟
يتطور الصراع في فضاء النص، فالشخص الغريب الذي يرِدُ في أحاديث الجميع (الخيَّاطة والدمى) يظهر فجأة. إنه المُورِّد الذي تحكمه علاقة غريبة مع الخيَّاطة. أولاً هو موردها، وتاجر ملابسها، ومحاسبها، لكنه ليس هذا فحسب. إنه رجل مثير للإعجاب على ما يبدو بالنسبة لها. تظل الخيَّاطة مترددة في الاقتراب منه والابتعاد عنه، خاصة مع معرفتها بأنه يسرقها. وها هو يعرض عليها مشروعاً جديداً اعتبرته الدمى "مصيبة"، إنه يخبرها ببساطة: "لن تعودي في حاجة لهذه الدمى، ومحلك هذا ينبغي أن يتغيَّر بالكامل، أن ينتقل مباشرة إلى المحطة التالية من التقدم والرقي والأرباح". تتململ الدمى في وقفتها وحين يغادر المورِّد والخياطة، تتحرك وتعبِّر عن خوفها وقلقها من العودة إلى المخزن مجدداً.
ينتقل الصراع إلى منطقة أخرى وأشخاص آخرين، إذ ينحصر (في الفصل الجديد) بين المؤلف والمخرج. المخرج لا يرى أن ما كتبه المؤلف عن الخيَّاطة والدمى مسرحية. يقول: "إنها منولوجات بلا حياة، لا حدث، لا فعل، لا دراما"، ثم يسأل: "هل سنعرض هذه المسرحية للناس؟". يحاول المؤلف أن يستميله بالتأكيد على أن هناك مفاجآت، لكن الشرخ يكبر بينهما، إنه شرخ في النظرة إلى المسرح، فالمخرج لا يعرف شيئاً سوى الحكاية، والفنون كلها قامت على الحكاية، لكنه لا يعطي بالاً - على ما يبدو - لتطورها، وقبولها بالتجريب. لقد صار بإمكاننا مشاركة الجمهور في كتابة النص، أو في آدائه، لكن المخرج القديم يرفض كل محاولات المؤلف لتحييده أو إلهائه، ويتفقان أخيراً على أن يخلق المؤلفُ راوياً جديداً.. فهل تستقيم الأحداث بهذا الشكل؟ لا. الراوي بدوره لا يلتزم بالنص والخلاف يعود بين المؤلف والمخرج، وكذلك بين الخيَّاطة والدمي (تتحول الدمى في نهاية المسرحية إلى عمَّال بإمكانهم الحركة والكلام ومخاطبة الناس)، ومن خلال الصراع يبدأ العمال في المطالبة بحقوقهم، إنهم يبدون صوت الشباب في مواجهة صوت الماضي الذي تمثله الخيَّاطة، لكن الشباب أنفسهم ينقسمون، ويبدو أن قضيتهم في طريقها إلى الضياع.
لا يكتب هلال البادي نصاً عادياً. ليست هناك دراما مستقرة فيما يكتبه. كذلك ليست هناك ذروة واحدة وإنما ذروات. ما نلبث أن نمسك بخيط الحكاية حتى يفلته منا. إنه على ما يبدو يجسِّد شخصية المؤلف في نصه، فهو يرفض الاعتراف بأن الفن مجرد حكاية، إنما هو محاولات للخلق، وثورة على الثبات. لا مكان بالنسبة إليه للنصوص التقليدية والبناء التقليدي. إنما هناك أرض شاسعة لأي نص يخلقه الشطح والخيال اللامتناهي، كهذا النص المجنون.
وبإمكاني الآن أن أجيب على تساؤل هلال البادي: "نعم هذه تسمَّى مسرحية، لكنها ليست أي مسرحية".