إضاءات "بهاء طاهر" خارج دائرة الإبداع!
(1)
هناك نموذجان معروفان في عالم الكتابة والإبداع أظنهما قد سادا في إبداعنا المعاصر على مدى القرن الفائت بأكمله؛ هناك نموذج الكاتب والأديب المتفرغ للكتابة والإبداع والانخراط في العملية الإبداعية بالكلية دون الانزلاق إلى الاشتباك مع هموم الواقع وقضايا المجتمع مكتفيا بما يقدمه من خلال أعماله (قصصه ورواياته، مسرحياته وشعره.. إلخ).
لزمن طويل كان يضرب المثل بنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وهما من هما باعتبارهما علمين شامخين من أعلام الإبداع العربي الحديث والمعاصر، وإن كان كلاهما قد تورط حتى النخاع في مواقف "سياسية" و"اجتماعية" لم يتمكنا أبدًا من الفرار ولا من الإدلاء برأيهما صراحة!
ثم جاء جيل جهير الصوت زاعق المواقف، مغموس في الأيديولوجيا حتى النخاع بل ومنهم من خاض تجربة النضال السياسي الحركي، مما أفضى بكثيرين منهم إلى دخول السجن خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات. قليل من هذا الجيل (الستينيات) الذي نأى بنفسه عن التورط الكامل في برك السياسة والاستقطاب السياسي، وركز جهده ونشاطه في مسارين لا غير: الكتابة الإبداعية وحدها؛ ونشاط آخر مواز في الكتابة غير الإبداعية وبما تشمل الكتابة النقدية، والقراءة الفكرية والثقافية أو أي إسهام معرفي آخر لا تفارق هذه الدائرة ولا تبعد عنها كثيرا.
(2)
إلى هذه الفئة بالتحديد ينتمي الكاتب والأديب الراحل بهاء طاهر (1935-2022) الذي غادرنا في مثل هذه الأيام قبل عامين (توفي بهاء طاهر في 27 أكتوبر 2022). وبهاء طاهر رغم أنه من المقلين جدا في إنتاجه الأدبي (شأنه في ذلك شأن إبراهيم أصلان وعلاء الديب، على سبيل المثال) إلا أنه حاز مساحة كبيرة جدا من الشهرة والذيوع والقبول، ربما لم يحظ بها من بين أبناء جيله الصاخب سوى كتاب معدودين للغاية ربما لا يزيدون على أصابع اليد الواحدة!
ترك ست روايات وست مجموعات قصصية جُمعت في مجلد واحد، وليس أكثر من ذلك! هذا كل ما تركه بهاء طاهر من تركة إبداعية (روائية وقصصية) لكنها تركت بصمتها الغائرة عميقًا في مجرى الإبداع العربي المعاصر، وحظيت بمحبة القراء واحترام النقاد على السواء، وقد توقفنا أمام بعضها أكثر من مرة في حياة صاحبها، وبعد رحيله، إضاءة وتحليلًا وقراءة وتفسيرًا.. إلخ...
لكن ربما لم يُلتفت كثيرًا إلى كتابات بهاء طاهر الأخرى في سياقات غير إبداعية خالصة؛ وقد كان بهاء طاهر (وهذه الخصيصة قد ميزته ووضعته في دائرة معرفية رفيعة المقام) مثقفا رفيعا؛ يقرأ بلغتين أجنبيتين ويترجم عن واحدة منهما بطلاقة، أتم دراسته في جامعة القاهرة بكلية الآداب قسم التاريخ في ستينيات القرن الماضي، فأتيح له تكوين معرفي وثقافي أصيل، فضلا على مواهبه الشخصية ونهمه للقراءة وحبه للآداب والكلاسيكيات، كل ذلك أدى به في النهاية إلى أن يكون مثقفا حقيقيا، كون حصيلة ممتازة في عقديه الأولين، وأفاد أيما إفادة من تجربة عمله في البرنامج الثقافي بالإذاعة المصرية الأم في سنوات تألقها وازدهارها وازدحامها بكبار المبدعين والمثقفين والنقاد وكتاب الأدب.. إلخ.
منحت هذه البدايات بهاء طاهر خبرات إنسانية وثقافية مذهلة، وقد تأنى كثيرا قبل أن يخرج على جمهور الأدب في مصر والعالم العربي بمجموعته القصصية الأولى "الخطوبة" (1972) التي كانت إعلانًا "على ميلاد كاتب لا يقلد أحدا، وذي طريقة مخصوصة في السرد". ثم توالت قصصه ورواياته بعد ذلك كما هو معلوم للجميع من محبي الأدب وعشاق كتابة بهاء طاهر.
(3)
أما ما لم يتوقف عنده الكثيرون حقيقة -لا قراءة ولا تحليلا ولا إضاءة- فكتبه الأخرى غير الإبداعية؛ وهي في العموم ليست كثيرة فهي ثلاثة كتب فقط، وهي كتابه الصغير عن المسرح، وكتابه عن أبناء رفاعة وكتابه الأخير في مديح الرواية، وكل ما صدر بعد ذلك من كتب أو كتيبات وضع عليها اسم بهاء طاهر هي من قبيل الاقتطاع أو الاجتزاء أو استثمار اسم الرجل الذي ظل حتى وفاته يحظى بحضور وافر وعارم في أوساط القراء داخل مصر وخارجها.
هذه الكتب الثلاثة صغيرة الحجم للغاية، لكنها مهمة وضرورية لمن أراد أن يجتلي جانبا من ثقافة هذا الجيل عموما، وبهاء طاهر بالأخص، ويكشف عن العوامل والمؤثرات والقراءات الأولى التي شكلت ذائقة هذا الأديب ووجهته إلى وجهته الإبداعية المختارة كما تجلت في قصصه ورواياته. هذا أولًا.
أما ثانيا؛ فإنها تكشف وفي الوقت ذاته عن حساسية نقدية رفيعة المستوى سواء في الاختيار أو القراءة أو التفسير، كما تكشف من ناحية ثالثة عن تصورات بهاء طاهر للإبداع والكتابة الأدبية ورؤيته للمسرح وأدواره الإنسانية والعالمية، كما يطرح في واحدة منها رؤية مثقف مصري وعربي معاصر لمسيرة التنوير والنهضة منذ الطهطاوي ومرورا بطه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي، ووصولا إلى جيل يوسف إدريس وجيل الستينيات الذي كان بهاء طاهر نفسه ينتمي إليه.
(4)
سأبدأ بأخرها صدورًا، وهو كتاب في "مديح الرواية" (صدرت منه طبعتان أو ثلاث طبعات) الذي ضم فصولًا وقراءات وتعليقات على نصوص أدبية، وروايات وقصص وشخصيات، وإن لم تكن كذلك وقت كتابتها كمقالاتٍ وفصول متفرقة، نُشرت على مدى زمني استوعب العقدين الأخيرين أو العقود الثلاثة الأخيرة في حياة بهاء طاهر.
الكتاب الذي يقع في ما يزيد قليلًا على المائتي صفحة (من القطع الأقل من المتوسط في طبعته الأحدث الصادرة عن دار الشروق قبل عدة سنوات) يقدِّم واحدة من أنضج خبرات الكتابة عن الإبداع والمبدعين، وفن الرواية، من خلال تأملات صاحبها الكاتب والروائي والناقد أيضًا الذي يطل بوجهه الهادئ الحكيم المتواضع وبمعرفة غاية في العمق والثقافة والاستيعاب، وعبر معالجات نصية رهيفة ومتأملة.
يقدِّم بهاء طاهر رؤيته وقراءته لعددٍ معتبر من النصوص الإبداعية الروائية والقصصية في مصر والعالم العربي، يقرأها ويقدمها، ويبشر ببعضها، وقد أثبتت الأيام صدق بشراه، وخذلته بعض الأسماء الأخرى التي سرعان ما انطفأ وهجها سريعا، ولم يبق منها إلا ما أشار إليه الكاتب القدير في فصول كتابه "مديح الرواية".
يستهل بهاء طاهر بالقول إذا كان المتنبي يقول: إنّ خير جليس في الزمان كتاب، فإنّ خير جليس معي يتمثّل في رواية جميلة. فلا متعة تفوق هذه المتعة.. في العادة، وكما يقول، يبدأ قراءة الرواية بنوعٍ من البطء، يقرأ صفحات قليلة في أول يوم ثم يتركها، في اليوم التالي يتسلّل سحر الرواية إلى نفسه وتتغلغل في ثنايا روحه فيقرأ أكثر وأكثر، ثم بعد ذلك يكاد يصل النهار بالليل منغمسًا تمامًا في القراءة إن كانت الرواية طويلة الحجم. تصبح أحداث الرواية وأشخاصها عالمه الحقيقي، ويمسي العالم الخارجي مجرّد شبح وتطفّل مزعج على دنيا الرواية.. "لا أبذل جهدًا لكي أنساه لأنني أنساه بالفعل"
(5)
وهو يعرف أنه في ذلك مثل ملايين في العالم يأسرهم سحر الرواية. وكان ذلك الأسر يجعله، مثلًا، وهو تلميذ صغير ينتظر كل صباح في لهفة حلقات رواية "شهيرة" للكاتب الجميل سعد مكاوي في صحيفة (المصري)، وجعله بعد ذلك في شبابه يستحث الأسبوع أن يمر لكي يقرأ في (الأهرام) الجزء الجديد من رواية نجيب محفوظ، مع انتقاله بين حين وآخر إلى صحيفة (الجمهورية) ليقرأ، مثلًا، حلقاتٍ من رواية "البيضاء" ليوسف إدريس، أو من "خلِّيها على الله" ليحيى حقّي، أو "السائرون نيامًا" درّة سعد مكاوي.. ذلك حقًّا هو عطر الأحباب الباقي...