إبداع العمانيين في كتابة المصحف الشريف ورسم آياته
عُدْتُ إلى أوراق قديمة، لمخطوطات عُمانية ليست مكتملة من "المُصْحَف الشَّريف"، لاقت الأقدار الجميلة بيني وبينها ذات يوم، ورحت أتأمل صفحاتها وكأني أدخل زمنًا غير زمني، ويعود بي قرونًا إلى الوراء، أشم رائحة الحبر المتخثِّر بين السطور، وأشعر وكأني أعايش تجربة أولئك النسَّاخ رحمهم الله، فأنظرُ مبهورًا إلى حِرفتهم في الكتابة، وصناعتهم للمصاحف، وأقدِّر الوقت الطويل الذي مكثوه وهم يكتبون، واشتغالهم بتحبير كتابة المصحف، فلا تنقص منه كلمة، ولا تسقط آية، ولا تتقدم صفحة على أخرى، وأشعر باحتباس أنفاسهم لحظة الكتابة، فلا ترتعش أياديهم، ولا يشذ حرف من موضعه، أو يضيع منهم رَسْم كلمة، وكأنهم وارثوا مهنة "كتبة الوحي".
ووجدت تلك الورقات القرآنية المخطوطة، أنها تنتمي إلى مصاحف كُتِبَت بأقلام مختلفة، كل قلم يمثل زمنًا خاصًّا به، وتجربة من الكتابة، بين البدايات والاحتراف، والمهنة والشغف، والمحاولة والموهبة، يظهر ذلك من حجم الكلمات، وتناسقها في الخط، وكنت مع كل كتابة أتوقف مستمتعًا بتماهي الكاتب مع الآيات الكريمة وكأنه يعيش حالة من الوَجْدِ الصُّوفي، بل إن كل ورقة لها شكلها الخاص الذي لا يتكرر مع أخرى.
وتتراوح أسطر صفحات الورقات بين 15 سطرًا و16 سطرًا، و25 سطرًا، في كل سطر 18 إلى 20 كلمة، ووجدت النساخ يُدغِمون حرف إنْ الساكن مع ما بعده، مثال ذلك: (إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ) يوسف: 26، كتبت بإدغام حرف إنْ الساكن مع كانَ، لتبدو كتابة: «إنْكانَ»، وقد ينسى الناسخ كتابة آية، فيكتبها بخط صغير أعلى السطر، مع إشارة إلى موضعها.
ولاحظت أن بعض الخطاطين يتركون بصمة خاصة بهم في الكتابة، كأنْ يشكلون حرف النون في آخر الكلمة، لتأخذ مساحة أكبر من بقية الحروف، تمتد أسفل الكلمة التي تليها، كقوله تعالى: (مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ) غافر: 78، حيث يقوم الناسخ بمد حرف النون في كلمة من أسفل كلمة قصصنا، وكأنها ذراع حانية، وكذلك مع بقية الكلمات المنتهية بالألف المقصورة، من ذلك قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ) فصلت: 11، فيقوم الناسخ بمد الألف المقصورة في كلمة "استوى" وكأنها أريكة، ومن النساخ من رسم الكلمات رسمًا وكأنها أكمام زهر.
إن طريقة تشكل الحروف وتشكيلها في نسق واحد، أكثر ما يشد الانتباه إلى الجماليات الخطية، تلك البصمة الغامضة، والمسحة الساحرة التي يتركها الناسخ في المصحف، أما استخدام النساخ للزخرفة الملونة، فأكثرهم يزينون الصفحتين الخاصتين بسورة الفاتحة، والآيات الأولى من سورة البقرة، فتبدوان أشبه بعينين مفتوحتين مكحولتين بالحبر، أو بوابتين تقولان لقارئهما: أدخل بأمان فأنت في جنة القرآن، بما يؤكد أن الخطاطين العمانيين أبدعوا في كتابة المصحف الشريف، وأتقنوا رَسْم آياته حد الإبهار.
ومع أن عُمان دخلت في الإسلام منذ بدايات العصر الإسلامي الأول، وظهر فيها فقهاء كبار، إلا أن مصاحفهم التي كانوا يقرأون منها القرآن، وهي مصاحف ألفية، أي تعود إلى ألف عام وما قبل ذلك، تلك المصاحف ليس لها ذكر ولا وجود، فأين ذهب ذلك التراث الخطي العظيم والعريق؟
إن دار المخطوطات بوزارة «الثقافة» تمتلك (حصيلة قيِّمة من مخطوطات المصحف الشريف، تتجاوز المائتي نسخة، لها خصوصية في نمط كتابتها وتجليدها وزخرفتها وتذهيبها) -من كتاب «نوادر المخطوطات العمانية»: ص17- هذا العدد من المصاحف في دار المخطوطات فقط، وهناك مصاحف أخرى في مكتبات رسمية وخاصة، بعضه تم حصره وفهرسته، والكثير منه بين الأماني والرَّجاء.
هناك مصاحف أخرى، فيها من الإبداع الخطي والجمال الزخرفي الكثير، يؤكد شغف الخطاط العماني بتطوير فن الكتابة لديه، واستخدامه للملون من الأحبار، وقد نظرت إلى الورقات المخطوطة لدي، فرأيت استخدام الخطاط كثيرًا للحبر الأسود، وقليلًا للأحبار الملونة، كالحبر الأحمر، يكتب به لفظ «الله» جل جلاله، أو يرسم به دوائر نهاية كل آية، والبعض يكتب بحبر ذي لون برتقالي، ووجدت في بعض المصاحف أن الخطاط يميز اسم السورة وعدد آياتها بالحبر الملون.
والحديث عن جماليات الخط في المصاحف العمانية لا ينتهي، ومع كل اكتشاف لمخطوطة جديدة، يتجدد الحديث عن تلك الجماليات، ومما يدعو إلى الأسف أن ما ضاع من المخطوطات أكثر مما بقي، والذي أتلفته الأيادي وسوء الحفظ أكثر مما هو بين أيدينا اليوم، رأينا بعضها في الكتب البحثية المتخصصة، ورأينا في بعضها عبث الزمان وقسوة الأيام، فبدت متيبسة وألوانها منطفئة، وقد ذابت فيها الأحبار.
وحين نبصر في المدى الرَّحب لهذا التراث الخطي، لا نرى مركزًا أو دارًا، تعيش فيه المخطوطات القرآنية حياة آمنة، تحفظ له خصوصيته وتحتويه، وتجمع نوادره وروائعه من مظانها الضنينة به، يتردد عليها الباحثون، المشتغلون بدراسة جماليات المخطوطات، يدرسونه دراسة فنية وتاريخية ولونية وافية، والأحبار التي كتبت به، العالقة في أوراق المخطوطات، وكأنها وشْم في جسد متشبث بالحياة ولا يشيخ، وما تزال الأحبار العمانية القديمة، التي كتب بها النساخ الأوائل، في الغالب مجهولة التكوين والمَزْج، وبلا شك فإن في خزائن الأهالي الكثير من مخطوطات المصاحف القرآنية، ما يستحق أن يُجمَع وينسخ ويرمم، وما أبقاه الزمن قرونًا يمكن أن يضيع في لحظة، وإن كان ما ضاع سابقًا مشفوعًا بأعذار كثيرة، فما هو العذر لما يضيع من مخطوطات، في زمان تتوفر فيه وسائل الحفظ الرقمي والترميم الورقي؟!
وختامًا، هذه إشارة إلى كتابين خدما مخطوطات المصاحف العُمانية:
1 - كتاب «نوادر المخطوطات العمانية» المحفوظة في دار المخطوطات بوزارة «الثقافة»، للباحثين: سلطان بن مبارك الشيباني ومحمد بن عامر العيسري، صدر عام 2015م، يتضمن فصلًا خاصًا بنوادر مخطوطات المصحف الشريف.
2 - معجم «ألف باء المصاحف العمانية»، لسلطان الشيباني، صدر في طبعته الأولى عام 1441هـ/ 2019، عن مركز ذاكرة عمان، ابتكره من اشتغاله في تصنيف المخطوطات العمانية، ويتضمن 166 مصطلحا، في 216 صفحة.