أنساغ.. سينهدم البحر
(1)
ليس هناك أي شيء مُجدٍ، ومُجْزٍ يمكن أن أفعله في هذه اللحظة.
أيها الموت: أعلم الآن أنك كنت في أعزِّ المخدَّات، وأَنْعَمِ الشراشف، وأعظم الذكريات.
(2)
كلما أدرت محرك سيارتي لزيارة عبدالله البلوشي في قريَّات (مشروع زيارة مفاجئة بغية مباغتة التيقن من الإقامة في الهشيم وإمكانية استضافة المستحيل) انطفأ قلبي فأطفأت المحرِّك كما في إحدى اللقطات الفاتنة من فيلم لروبير بريسون بالأبيض والأسود، حيث يُحَسُّ بالثواني القليلة بين إدارة المحرِّك وإطفائه وكأنها الأبديَّة (وهي مصادفة غير حسنة النيَّة أن سيارتي فرنسيَّة، بل من نفس ماركة السيارة المستعملة في الفيلم)، وقلت لنفسي: لا ينبغي إزعاج عبدالله في دوران المحرِّكات، أو في دوران الكواكب حول بعضها البعض، أو في دوران الماء، أو في دوران النار أو الحليب، أو في دوران الرياح، أو في استدارة الرماد.
من حق عبدالله البلوشي أن يبقى بعيداً جداً، ومن واجبنا ألا نصل إليه أبداً.
(3)
في ما يخص الأمل كلنا مقصِّرون، بمن في ذلك أكثرنا تشاؤماً، وأعتانا تفاؤلاً، وأخمصنا غباء، وأعظمنا حكمة، وأبرُقنا ذكاء، وأقصانا فطنة، وأسخانا تعويلاً، وأعمقنا فِراسة، وأغورنا استبصاراً، وأصبرنا انتظاراً لِمَلَكات ومواهب الخير، ومكنونات ومبررات الشر.
حتى الموت يحتاج إلى أمل.
(4)
لا أحد يستطيع أن يفهمني في الليل (أقصد: بعد أن أكون غيمة أو فضيحة في النهار).
(5)
حتى التَّفرُّد صار من شعارات القطيع، فإلى أين الذهاب (بالقطيع وبالتَّفرُّد معاً)؟
(6)
لا أحد هنا يعلم أي شيء عما يحدث هنا (لكن الكارثة الأنكى هي أنهم يحيطون بكل شوارد ووارد الذي هناك).
(7)
فِطنة الحب: أول مرة تحركت فيها ذراعك العارية الغضَّة البضَّة بعروقها الخضراء أمامي، صعوداً وهبوطاً، ميمنة وميسرة، ارتعاشاً واختلاجاً، في المقهى الذي سيغادر.
أعتقد أنه غادرنا بالفعل.
(8)
بعد تجارب شخصيَّة مباشرة مع الذين منذ تأسيس الفلسفة (أفلاطون، "الجمهورية") إلى كلام الله (القرآن، "الشُّعراء") "يقولون ما لا يفعلون"، ولحوم الأحياء والأموات ينهشون، وظهور الأصحاب الخيِّرين يطعنون، خير للمرء ألا يقرأ إلا للكتَّاب الأموات (وقِس على ذلك في ما يخص صنوف الفن والإبداع الأخرى) ممن يعجب المرء بحياتهم، ومواقفهم، وكتابتهم، وموتهم؛ فهذا الرهط من القوم لم يعد في وسعه أن يؤذيك، أو أن يؤذي أحداً. والأهم من ذلك أنه لم يعد من الممكن لهم أن يؤذوا حتى أنفسهم.
لقد أصبحوا خارج نطاق جاذبية التشويه والتشويش، ولذا صارت قراءتهم حقاً وواجباً معاً.
(9)
أيها الساذج في الحب:
فلتبقَ ساذجاً هكذا
لأنك إن صرتَ أكثر حكمة في الحب
ستكسب المحبوب
ولكنك ستخسر الحب.
(10)
هذا من بودلير إلى أولئك السادة الأماجد الأفاضل الذين يتعاملون مع الترجمة كما يفعل المقاولون في حي المعبيلة الجنوبيَّة: "هل تعرف لماذا حرصتُ على ترجمة إدغَر ألن بو بهذا الحماس؟ لأنه يشبهني" ("الرسائل").
(11)
ما يُعذِّب الكاتب، ويوجعه، ويقوده إلى حتفه بسبب القرف من كل شيء وازدرائه، أو بسبب مرض الاكتئاب المزمن الحاد، أو مرض الأرق المزمن الحاد، أو بسبب كراهيَّة الأب، والأم، والإخوة، والأخوات (بتعاطيات متكافئة على عكس المشروبات الكحوليَّة تقريباً)، أو بسبب أحوال الصراع الطبقي في التجربة غير الناجزة، والنضال الوطني في تعطيله، وانحلال الثقافة، وانعدام الإنسانيَّة، وتعفُّن الحياة، ولغير ذلك من أسباب، هو تحديداً وبالضبط -- أي ما يعذِّب الكاتب ويوجعه -- نفس ما يُمتع القارئ (وربما أكثر من المتعة فحسب فيما يخص القارئ).
يقول موريس بلانشو شيئاً مفارِقاً ومثيراً للاهتمام عن كافكا: لقد احتجنا إليه ليكتب من وراء القبر، وذلك كي لا يكون القارىء وحيداً ("كتابة الكارثة").
نقف هنا على الحد الأعلى من مسؤوليات الكاتب، وعلى الحد الفائق من غطرسة القارئ.
الكتابة اقتراف الكاتب وموهبته العظمى التي لا تُنافس: تقريباً هذه هي الطريقة الوحيدة، والكبيرة لارتكاب عارِه على الملأ الذي كفَّ عن الشرف والخجل. يمارس الكاتب ذلك بإبداعيَّة كبيرة وجماليَّة فائقة على الذين خرج من أوحالهم وأحوالهم، وإلا كيف يمكن أن يكون هناك عار من غير جمهور يعرف الخزي، والموهبة، والنصر في صيغة الهزيمة؟ وحتى حين سيدفنونه غداً، سيقولون الجملة التي لم يعد هناك أي سُكَّر في ما يمضغونه في أفواههم: لقد كان واحداً منَّا.
يصير الكاتب شاياً للندم، والتبرؤ، والسلوان بعد أن يثقوا أنه قد أصبح تحت الأرض، وأنه لن يتمكن من مشاغبة أي أحد، سوى نفسه.
أليس هذا مأساويَّاً بما فيه الكفاية للكاتب، وليس شريفاً ولا نزيهاً تماماً فيما يخص القارئ؟
إلى أين نذهب، قرَّاء وكُتَّاباً؟
شخصياً، لا أحب هذا السؤال مع إنني أكتبه في هذه اللحظة بالتحديد. لم أعد أطيق المزيد من الخبرة فيه.
(12)
يا هذا: أنت تريد التعبير عن الصور بالكلمات، لكن الصور لا يُعَبَّر عنها إلا بالريشة، أو الكاميرا، أو المرايا المستحيلة، تماماً كما أن القمر لا يُعَبَّر عنه إلا بالسحر، والمرأة لا يُعبَّر عنها إلا بالعشق، والأبدية لا يُعبَّر عنها إلا بالجنون أو بالموت.
يا هذا: صه!
(13)
شخص لا يعيش أية حياة
تعالوا نقدِّم له الخبز (مما تبقى من حفلة البارحة).
(14)
كمن يهذي أمام الأنبياء
مثل من يكمل الرسالات
كما لو أن الملائكة أدوات تشبيه.
(15)
لا تكملي خطوتك. سينهدم البحر.