أنساغ :رسالتان بينهما ثلاثة وثلاثون عامًا، وخيطٌ غير واهٍ، وبقية العمر
(يأتي نشر هاتين الرسالتين ضمن مراوحات مدٍّ وجزر إصدار الجزء الثاني من «الفراغ الأبيض الذي سيلي: رسائل «الذي كان جزؤه الأول قد صدر عن مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2015).
الرسالة الأولى: «أركضُ حول الكرة الأرضيَّة من دون أن أنام»
سان دييغو، كاليفورنيا، 5 من يوليو 1988 [أُرسِل المكتوب بالبريد الورقي الدولي]
يا قاسم
كيف أصبحت الآن؟ لا مفر من الثقة، لأجلك ولأجلنا جميعًا، من أنْ لا شيء يدعو «للانسجام». ومع ذلك فإني أميل إلى «تمني» - على الأقل-أن تكون بخير: أعرف تمامًا أن «خير» هذه كلمة بغيضة في جانب، ومطْلقة - بشكل غير ميتافيزيقي البتَّة - في جانب آخر. ومع ذلك ماذا بوسع المرء أن يقول حين يتعلق الأمر بالأجساد الهشَّة المجبَرين على ارتدائها والسير بها حتى الارتطام الأخير. أتمنى، إذًا، أن تكون بخير. أتمنى ذلك، وبصدق غير مطلَق.
قبل أيام وصلني (العدد الراهن) من «كلمات»، فشكرًا جزيلاً لك. وقد دهشت أن قائمة الكتب غير موجودة لا في المجلة، ولا في المغلَّف: هل أنا مُحِقٌّ في الاعتقاد بأنك قلت في الهاتف إنك سترسلها مع «كلمات»، أم أنك قلت شيئًا آخر والتبس الأمر عليَّ؟ في كلا الحالين، أنا في انتظار القائمة خاصة وأنه خلال فصل الصيف بوسع المرء أن يكرِّس وقتًا كافيًا للبحث. قبل ذلك، بالطبع، أتمنى أن تصلك هذه الرسالة.
لولا مساق الرياضيَّات - وما دمتَ قد مررتَ بهذه التجربة الكريهة، وكان في وسعك أن تحس كم هي باردة وضيقة غرفة الأرقام والمكعَّبات هذه، فلن أكتب لك عن شعوري حول ذلك--.. لولا هذا المساق الجالب للنغص لكنتُ أقضي صيفًا منتِجًا بمعظم المقاييس. ومع ذلك فإن المرء إذ هو معتاد على المصادرة والاستلاب، ومعتاد، بالتالي، على حفر قنواته الخاصة، فإنني أحاول أن أنتقم: أسمع موسيقى، وأقرأ، وأشاهد أفلامًا، وأكتب أحيانًا. أبعث لك محاولة (كتابيَّة) أخيرة فأرجو أن تقول لي رأيك. قرأت مؤخرًا «دروب الجوع» لخورخي أمادو: رواية عن المناخات الاجتماعية القاسية في البرازيل، ولكني أعتقد أن (روايته القصيرة) «كانكان العوَّام الذي مات مرتين» كانت عملًا أنضج. سمعت كثيرًا عن (روايته) «غابرييلا» لكني لم أقرأها بعد. قرأت أيضًا (كتاب) «تأملات في موت ميشيما» لهنري مِلَر حيث يسلط هذا الأمريكي المجنون الطالع من هذه الأرض المهجورة الضوء على حياة الشهيد الياباني، وعلى حياته هو أيضًا، في سخرية رائعة من الكتابة الأكاديميَّة كما في (كتابه) «رامبو وزمن القتلة». من القراءات التي استوقفتني كذلك دراستان: «نحو فكر مغاير» لعبدالكبير الخطيبي في مشروع بحث العلاقة بالغرب، و«القيامة والقربان» لبيتر غرين عن (فيلم) «القربان» لتاركوفسكي. من الأفلام المهمة (التي شاهدتها في الفترة) الأخيرة «أجنحة الرغبة» لِفِم فندرس (-حسب العنوان الإنجليزي- وأظن أن العنوان الأصلي بالألمانيَّة «طيران فوق برلين»): غير معقول أبدًا هذا الرجل بشاعريته المأساويَّة. كذلك (شاهدت فيلم) «أغرب من النعيم» لِجِم جارمُش: أناس يلتقون ويفترقون في عبث مدمِّر. وجارمُش هذا مخرج أمريكي طليعي له ثلاثة أفلام فقط، وهو يعمل خارج دائرة مهرِّجي هوليوود. هذا الفيلم قديم نسبيًّا (أنتج في 1984). كذلك (شاهدت) أفلامًا أخرى مثل أفلام فندرز القديمة حيث لم أكن أعرفه قبل (مشاهدة فيلمه) «أجنحة الرغبة». عن السينما كذلك أقرأ الآن كتابًا عن أفلام أكيرا كوروساوا (شاهدت له قبل أيام فيلمًا أنتِج في 1972، «دودسكادِن»: فيلم جميل عن الحلم، وبشاعة المدن، وأشياء أخرى). عدا ذلك فإن المرء لا يزال يبحث عن نسغ الموت؛ ذلك الجوهر المدفون مثل نصل في الأرحام الأولى. لا يزال المرء يبحث عن مصرعه «بنضج تام» حسب نيتشه. أيضًا - ما دمتُ أتصور أننا نتحدث الآن في مقهى- فإنني أقول لك إني بدأت مؤخرًا في ممارسة بعض الرياضة من أجل إجهاد الجسد رغبة في التمكن من بعض النوم. ولكن أصبح لديَّ شعور بأنني سأنتهي أركض حول الكرة الأرضيَّة من دون أن أنام. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أنني سأعود إلى ضياعي (...) السابق. تحدثت عن نفسي كثيرًا ذلك، ربما، لأنني لم أتحدث مع أحد مطلقاً منذ بضعة أيام. وربما لأني لا أخلو من أنانيَّة حيث أتحدث إلى أولئك الذين أتصور أنهم يودونني ويقبلونني كيفما أنا. لا شك أنك لن تحرمني من رسالة ونصوص قريبة. أنا أيضًا سوف أكتب لك رسالة وجدانيَّة أكثر فور التخلص من صداع (مساق) الرياضيات. أؤكد على تحبيذي إرسال قائمة الكتب خلال الصيف.
للأصدقاء جميعًا، وللعائلة، ولك كل تحية وشوق.
الرسالة الثانية: «لأننا بحاجة لك هنا»
العزيز (...)
معذرة، فقد تأخرت في الكتابة إليك، لكني لم ولن أتأخر عنك.
كانت مفارقة حزينة أن رسالتك (الإلكترونيَّة التي تعتذر فيها عن لقاء الوداع الذي اتفقنا عليه، وتقول لي فيها إنك لم تعد موجودًا في هذه البلاد) وصلتني تحديدا وبالضبط في اليوم نفسه الذي كنت أفكر فيه بالتواصل معك، فقد كنت أتوقع اتصالًا منك ظللتُ أبرِّر غيابه بازدحام وقتك وانشغالاتك استعدادًا للسفر، حتى جاءت اللحظة التي أيقنت فيها أن ذلك التأخر ليس طبيعيًا.
لقد جعلتني أعود بالذاكرة إلى أكتوبر 1985 حيث كان سفري الدراسي الأول لبريطانيا. مثلك أيضًا شئتُ ألا يودعني أحد. ذهبت في سيارة تاكسي إلى المطار الذي كنت فيه وحيدًا.
لا بأس يا صاحبي. يجيء المرء إلى الحياة وحيدًا، ويمخرها وحيدًا، ويغادرها وحيدا. لكن بعيداً عن هذا التفلسف، فمنذ لقائنا الأخير وسعادتي تتضاعف كلما أوغلتُ في التفكير بخصوص هذه النافذة التي تذكَّرتْك بها الأرجاء الشحيحة. وأنت - أكثر من أيٍّ منّا - عاملتكَ الحياة بقسوة وعنف طوال عشر سنوات إن على الصعيد الشخصي أو العام.
كان كل ذلك يحدث والعمر يمضي، والطاقات يُنَكَّل بها استنزافًا في غير ما هي جديرة به، والمرء يقاتِل بشراسة ليس على جبهاته فحسب، ولكن أيضًا دفاعًا عن تخاذلات وخذلانات الآخرين. الآن، ذلك يكفي الجميع.
أثق تمامًا، من معرفتي الشخصية بحيويتك وفاعليتك، بأنك الآن في المكان الذي يجب أن تكون فيه. وحتى على الصعيد الذاتي قد يكون في الوضع الجديد ما يفاوِض جراحات الزمن.
ثقتي في إمكاناتك البحثيَّة والفكريَّة من ناحية، ويقيني في قدرتك على التعامل مع الاعتراضات العمليَّة والركاكات الحياتيَّة الموجودة في كل مكان، يجعلاني أتذكر جملة كتبها لي قاسم حدَّاد في إحدى رسائله منذ أكثر من ثلاثين سنة.
أفكر في تلك الجملة الآن على أنها وديعة آن أوان أن أعهد بها لشخص آخر قمين بها.
تلك الجملة/ الوديعة هي: «استفِد لأقصى حد من كل لحظة تقضيها هناك؛ لأننا بحاجة لك هنا».
في انتظار تواصلك.
كُن بخير.