الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني
الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني
ثقافة

أضاميم.. في حياة كل شاعر قصيدة أخيرة

20 أغسطس 2022
20 أغسطس 2022

في حياة كل شاعر قصيدة أخيرة، تمثل صورة لآخر انفعالاته، وآخر بوحه الشعري، وآخر أنفاسه التي تشكلت قصيدة، فهل يمكن أن نقف على آخر ما كتبه الشعراء من قصائد، لنرى فيم كانوا يفكرون، وهل تفرُق قصيدتهم الأخيرة عن غيرها، التي كتبوها في سنوات حياتهم؟ مثل هذه الأسئلة زاحمت وجداني، وأنا أقرأ عن شاعر كبير، وهو أبو الطيِّب المتنبي، كتب قصيدته الأخيرة، مودِّعًا عضد الدولة في أول شعبان من عام 354هـ، (وهي آخر شعر قاله وسُمِعَ منه)، كما يروي الرُّواة لشعره، حيث اعترضه فاتك الأسدي وقتله، بحسب الروايات: في (رمضان 354هـ)، القصيدة على الكامل وقافية الكاف الممدودة، يخاطب بها عضد الدولة مطلعها:

فِدَىً لك مَنْ يُقَصِّرُ عن مَدَاكا

فلا مَلِكٌ إذًا إلا فَدَاكا

حتى قال بعد أبيات:

وأيًا شِئتِ يا طُرُقِي فَكُونِي

أذَاةً أو نَجَاةً أو هَلاكا.

هل كان المتنبي يرثي نفسه، ويستشرف موته القادم، ويعيش حالة انكسار وانتظار لموت حتمي، فقد كان فاتك يتربَّص به، ورغم تحذيرات أصدقاء المُتنبي ألا يسلك الطريق الذي قُتِل فيه، وألا يسير وحده، وهم على علم بما يضمره الأسَدَيُّ له، إلا أن المتنبي كان بكبريائه يسعى إلى قَدَرِه المَحتوم، وهكذا كان، حيث مات مَقتولًا، يقول محقق ديوانه عبدالوهاب عزام: (إن في أضْعافِ قصيدته، كلامٌ جَرَى على لسانه، ينعى فيه نفسَه)!.

ترتيب ديوان أبي الطيب المتنبي، بحسب كتابة الشاعر لشعره، وليس بحسب القافية، يمكن أن يستفيد منه الدارسون، لتقديم صورة واضحة عن حياة الشاعر، وهو ترتيب فريد قلما يتكرر في الدواوين الشعرية، المرتبة قصائدها بحسب القوافي، فيبدأ الديوان بالقصائد الهَمَزيَّة، حتى إن كانت من آخر شعره، وينتهيه بقافية الياء، حتى لوكان كتبها في شبابه، هذا الترتيب يصعب من خلاله دراسة حياة الشاعر واهتماماته، إلا أنه كان يوقِّع على قصيدته، ما يدل أنه كتبها في تاريخ ما، غير ذلك لا يعبِّر ترتيب قصائد الديوان عن حياة الشاعر، منذ شبابه الأول وحتى وفاته، إنما هو شعر واحد، يتساوى فيها البواكير بآخر القصائد.

وأنا أراجع في بعض من دواوين الشِّعر العُماني، بحثت عن آخر قصيدة كتبها أولئك الشعراء، وحاولت أن أقف على آخر ما كتبوه قبل وفاتهم، لكن ترتيب دواوينهم بحسب القافية، بدءًا بالهمزة وانتهاءً بالياء، وعدم توقيع أغلبهم على تاريخ كتابة قصائدهم، يُضيِّعُ على الدارس معرفة آخر قصيدة، ولكن لماذا آخر قصيدة؟ لعل فيها نظرة خاصَّة للحياة، ولعل شمس حياة الشاعر كانت على وشك الأفول وهو لا يدري، ولعل فيها خلاصة تجربته، ورؤيته، واهتماماته، وأحلامه، وآلامه.

وفي بحثي وقفت على قصيدة للشاعر أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني، والمُتناقل في ديوانه أن الشاعر كتب تخميسًا، قبل وفاته بثلاثة أيام، وهذا موثق في النسخ المطبوعة من ديوانه، كما عرفت عن قصيدة أخرى للشاعر عبدالله بن علي الخليلي، نُشِرَتْ في جريدة عُمان، شهر ديسمبر 1998م، قبل دخوله في الغيبوبة المرضية الطويلة، والتي استمرَّت أكثر من عام ونصف، حتى توفاه الله بتاريخ: 30 يوليو 2000م، وإن لم تكن قصيدته الأخيرة، فهي من آخر شعره.

وهو ما شجعني في البحث عن قصائد أخرى لشعراء عمانيين كبار، ولكني لم أستطع أن أحدد آخر قصيدة لهم، بسبب هذا الترتيب الألفبائي لقصائدهم، ما ضيَّع الكثير على الباحث معرفة اهتمامات كل شاعر، وقراءة أحلامه، وطرائق تفكيره، وروحه التي على وشك أن تودِّع الحَياة.

ويمكن مقاربة تاريخ نظم الشعر بتاريخ وفاة الشاعر، ووجدت أن بعض الشعراء يؤرخون لتاريخ نظمهم للقصيدة، بطريقة «حساب الجُمَّل»، وهي كلمات لا تدل على معنى، وإنما كل حرف فيها يرمز إلى رقم، وبمقاربة تلك الأرقام، يتضح العام الذي نظم فيه الشاعر قصيدته، وهذه الطريقة لا يجيدها إلا البعض من الشعراء، وفي التجربة الشعرية العُمانية قصائد فيها إشارات إلى تاريخ ما، من ذلك قصيدة للشاعر راشد بن خميس الحبسي (حي: 1150هـ/ 1737م)، وكانت القصيدة وصفًا لباب حَديد، رُكِّبَ على أحد البيوت، فمدح أهله وهنأهم به، وذكر في قصيدته اسم صانع الباب وهي من ستة أبيات، مطلعها:

تمَّ ذا البَابُ كامِلًا باجتِهادِ

صِنعَة أحكِمَتْ بأقصَى المُرَادِ

وختمها بنظم تاريخ صناعة الباب على حساب الجُمَّل، وهو:

تم في عام «طمقغ» أحصيت مِن

بعد ما هاجر النبي الهادي

ومفردة «طمقغ» هذه لا معنى لها في ذاتها، ولكن بتحليلها إلى حروف، يتضح أنها تعني عام (1149هـ)، كالتالي: (الطا: 9، والميم: 40، والقاف: 100، والغين: 1000)، فهل تكون هذه القصيدة آخر ما نظمه الشاعر الحبسي، قبل وفاته بعام؟، لا يمكن الجزم بهذا، ولكنها من آخر شعره.

وعودة إلى الشاعرين: أبو مسلم البهلاني، وعبدالله الخليلي، فقد كتب كل واحد منهما قصيدة قبل وفاته، وكانت بمثابة المعبِّر الشعري عن هواجس الشاعر وحالته النفسية، والمترجم لمشاغله، في عمره الذي يوشك أن يتصرَّم، وربما إحساس بالموت قادم، يتوارى في أبيات قصيدته.

أبو مسلم البهلاني، شاعر عاش أكثر حياته في زنجبار، ومات فيها عام 1920م، ترك مؤلفات في الفقه والعقيدة وديوانًا شعريًا، ضاع بعض من قصائده، وكاد شعره كله أن يضيع، لولا تلميذه وابن أخيه الأديب: سالم بن سليمان البهلاني (ت: 1983م)، الذي جمعه وكتبه بخط يده، وفي النسخ المطبوعة من ديوانه «النَّفسُ الرَّحْمَاني» إشارة صريحة، إلى أن أبا مسلم قام بتخميس «القصيدة الميمية» لمؤلفها سعيد بن خلفان الخليلي (ت: 1871م)، بإضافة ثلاثة أشطر على كل بيت، وهي في السُّلوك، تتألف من 114 بيتًا، مطلعها:

تَقَدَّمْ إلى بابِ الكَريمِ مُقدِّما

لهُ مِنكَ نَفْسًا قبلَ أنْ تَتَقَدَّما

ولأبي مسلم تخميس آخر لقصيدة «سُمُوطُ الثناء»، للشاعر سعيد بن خلفان، وكلاهما يحملان لقب: «شاعر العلماء وعالم الشعراء»، فامتزجا معًا في نصين شِعريَّيْن.

وفي حين فات على محقق «الآثار الشِّعرية لأبي مسلم البهلاني»، وهو الشاعر محمد الحارثي (ت: 2018م)، توثيق أن هذا التخميس هو آخر قصيدة للبهلاني، بالمقابل لم يفت على محقق «شرح الموسوعة الشعرية لأبي مسلم البهلاني»، الإشارة إلى أن الشيخ: (توفي بعد فراغه من هذه القصيدة بثلاثة أيام).

أما القصيدة الأخيرة للشاعر عبدالله الخليلي، فهي «شَبَحُ الهَوَى»، التي كتبها قبل دخوله الغيبوبة الدائمة بشهور معدودة، وبقي في غيبوبته عامًا ونصف، حتى توفاه الله بتاريخ: 30 يونيو 2000م، وقبل ذلك كان الشاعر يدخل في غيبوبات متقطعة، لا يفيق منها إلا بعد تناوله للدواء، ولا أظن أن الشاعر كتب بعد «شَبَحُ الهَوَى» قصيدة جديدة، وإن كان قد كتب فهي على شاكلتها، وتدور في فلكها الشعري، وروحه التي كانت تميل إلى العُزلة، بعد إحساس مُمِض بالمَرَض الذي كان يعاني منه، رحمه الله.

«شَبَحُ الهَوَى» قصيدة كتبها الشاعر عبدالله الخليلي، بمناسبة تكريمه في أول دورة لمهرجان الشعر العُماني الذي أقيم تحت أعتاب قلعة نزوى، وقد ألقى القصيدة بالإنابة عنه تلميذه الشاعر: حبراس بن شبيط السمائلي (ت: 2008م)، بتاريخ: 27 شعبان 1419هـ، الموافق: 16 ديسمبر 1998م، وهي على بحر الكامل وقافية الهاء الممدودة، مطلعها:

رَبَطَتْ سَرَاهُ على الهَوَى بسَرَاها

فَسَعَتْ خُطاهُ شَجِيَّة بخُطَاهَا

وَتَسَابَقَتْ بالحُبِّ في آفاقِهِ

فَتَفَاعَلَتْ لِغَرَامِهِ شَفَتَاهَا

قصيدة عميقة مشبعة بالرَّمز، تبدو من القراءة الأولى أنها غزل في حسناء متخيلة، ولكنها في السلوك، يرى الشاعر فيها الحياة أشبه بحسناء، مقبلة عليه بدلها وحسنها وغرامها.

هذه القصيدة نفحة من وجدان الشاعر، كتبها بعد صمت طويل، وهو في حالة الغياب والنوم، إذ قضى الشاعر سنوات عمره الأخيرة في غيبوبة متقطعة، متأثرًا بمرض «باركنسون»، فكان أشبه بالصَّامت ليله ونهاره، إلا ساعات معدودة، يفيق فيها بعد تناوله الدَّواء، ويملي فيها الشعر الذي ينظمه في غيبوبته، كهذه القصيدة الأخيرة.