أشياء ماديَّة، صُور، وتمثيلات: محاولة نحو شِعريَّات سينما نِكُلَسْ رْيْي (2 من 5)
بناء على ما جئت عليه في الحلقة السابقة فإنني أود استعارة مفهوم الـ"punctum"البارتي (نسبة إلى رولان بارت) الذي أرى أنه مفيد وملائم جداً لقراءة تَبَدِّي الشيء باعتباره واقعياً أو حقيقيَّاً أو ممكن الحدوث في السَّرد السينمائى أو العكس (verisimilitude) وذلك فيما يتعلق بالأشياء الماديَّة، وبالتجليَّات التي تَرِدُ بها في تلك الآثار أكانت صوراً فوتوغرافية، أو لوحات تشكيليَّة، أو ملصقات دعائيَّة لأفلام، وهكذا.
لكن ستكون المشكلة التي تواجهني هنا محاججة بارت نفسه أن مفهوم الـ"punctum"صالح التطبيق على الفوتوغرافيا، حيث يشرح الأسباب التي تدعوه إلى ترجيح تطبيق ذلك المفهوم على الصُّور الفوتوغرافيَّة وليس الصُّور السينمائية. لكني أرى أن ما يقوله بارت شيئا يخصُّه، بينما إعادة النظر في مقولته شأن يخصُّ قارئ بارت؛ حيث أرى أن الاستخدام المُصَفَّى، والمصقول، وعالي التقنية بصورة متصاعدة للفوتوغرافيا في السينما الحديثة إنْ وثائقيَّة، أم روائيَّة، أم واقعة بين المنزلتين (كما في عدد من الأفلام التي تتكاثر وتُجَوَّدُ بشكلٍ متنامٍ في السينما الحديثة وما بعد الحديثة) يدعونا بإلحاح إلى مراجعة أطروحة بارت ليس فقط لأن السينماتوغرافيا هي الابنة الشرعيَّة للفوتوغرافيا فحسب، ولكن كذلك لأنه بات من الصعب للغاية، على سبيل المثال لا الحصر، تصوُّر أنه لا يمكن استخدام مفهوم الـ"punctum" في التعامل النَّقدي مع فيلم سينمائي طليعي من قبيل "الرصيف" لِكْرِس ماركر Chris Marker (1962)؛ إذ أن الفيلم مكوَّن بالكامل من صور فوتوغرافيَّة متعاقبة تشكِّل السرد السينمائي طوال ثمانٍ وعشرين دقيقة أسماها ماركر "رواية فوتوغرافيَّة" تحاول فيها الصُّور الفوتوغرافية الإيعاز بكادرات سينمائية. وبالإضافة إلى الأثر آنف الذكر فإن هناك العديد من الأفلام السينمائية التي توظِّف الفوتوغرافيا بوصفها عنصراً سرديَّاً بنيويَّاً أو شبه بنيوي. ولذلك فإنني لا أسعى إلى تحديد الـ"punctum"في صورةٍ ما خارج الملكوت السينمائي (كما كان بارت سيرغب)، بل إني أحاجج أن تلك الصورة الفوتوغرافيَّة المنسوجة في لُحمة صور السرد الفيلمي ومجدول الحكاية البصريَّة إنما تشكِّل "punctum" ذلك الفيلم ومفتاح قراءته جزئيَّاً أو كليَّاً.
سأقول، إذاً، إن فيلم نِكُلَسْ رْيْيْ "في مكان منعزل" (1950) يشبه من نواحٍ عدة فيلم بِلي وايلدر Billy Wilder "جادَّة الغروب" الذي أُطلِق للمشاهدة الجماهيريَّة في نفس العام، وذلك من حيث إنه تعليق "أسود" (نسبة إلى "الفيلم الأسود" [film noir] الذي هو نوع سينمائي أفلامه ذات طابع كئيب، ومكفهر، و"مظلم"، وقد استعار النُّقاد الفرنسيون الذين عملوا في إطار سينما "الموجة الجديدة" هذه التسمية من أسلافهم النقاد الأدبيين الذي استخدموا تعبير "الرواية السوداء" [roman noir] في نعت الرواية القوطيَّة الإنجليزيَّة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومناخاتها، وشخصيَّاتها. وقد راج هذا النوع خاصة في السينما الأمريكيَّة خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، حيث تركز الأفلام المنتمية إلى هذا النوع على تعرية الجوانب الدَّفينة والمظلمة في العالم السفلي للإنسان ضمن محيطه المديني الحديث بما في ذلك من، شر، وسوء طويَّة، وجريمة، وفساد، وغدر، وعطب للقيم الروحيَّة والأخلاقيَّة. لذلك فإن معظم مشاهد أفلام هذا النوع تحدث إنْ في التصوير الداخلي أو الخارجي في قاع المدينة ليلاً -- وقاع النَّفس البشريَّة أيضاً-- مع استخدام تقنيات من قبيل الإضاءة الكابية وحادَّة درجات التَّباين والتغاير المستعارة إلى حد بعيد من "السينما التعبيريَّة الألمانيَّة"، والتي تعلي من شأن الظلال والأشباح، والإيحاء بالرِّيبة والتَّطيُّر، والخوف، والمجهول، والموت).. أقول، إذاً، إن فيلم رْيْيْ "في مكان منعزل" لَتعليقٌ على الصناعة السينمائية في هوليوود وكواليسها (وكوابيسها)؛ وبالتالي فإنه تعليقٌ انعكاسيٌ عن الأداة الإبداعيَّة أو الوسيط التَّعبيري والفني، وفي هذه الانعكاسيَّة يعتمل التَّمثيل (representation) وتَتَبوتَقُ آليّاته؛ فَدِكْسُن ستيل، مثلاً، (قام بالدور همفري بوغارت Humphry Bogart) بوصفه بطلاً (أو بطلاً ضِدَّاً، في الحقيقة) مهنته كتابة السِّيناريوهات السِّينمائيَّة، أي انه الصَّانع المهنيُّ المحترِف للتَّمثيلات (representations)، وعلاقته بمِلدرِد آتكِنْسُن )قامت بالدور مارثا ستِوَرت Martha Stewart) إنما تلخِّص فكرة التَّمثيل (representation) في التَّمثيل (representation) أيَّما تلخيص بالغ، وبمعنيين في الأقل حسب اعتقادي. أما المعنى الأول فهو أن ستيل – الذي غالباً ما يتحدَّدُ بالفوريَّة، واللاحُسبان، والمباشَرة في القول والفعل، وردة الفعل، واللامبالاة – لا يقرأ "ألثيا بروس" (وهذا هو عنوان رواية شعبيَّة مفتَرضة مطلوب منه تحويلها إلى سيناريو سينمائي). بدلاً من ذلك، فإن الرِّواية الشعبيَّة تُمَثَّل (represented) له عبر شخصيَّة آتكِنْسُن من خلال أدائها الذي يبدو بكل المقاييس شبيهاً بالتَّمثيل (acting-like) المدفوع ثمنه بالتَّعاقد القانوني المُلزِم؛ فهناك، إذاً، وعي صريح بالتَّجربة الإنابيَّة. وأما المعنى الثاني، في اعتقادي، فهو أن آتكِنْسُن، وهي ذاتُ التِّمثيل (representation) بوصفها قارئة نيابيَّة لِستيل، تصبح موضوعاً للتَّمثيل (representation) بعد جريمة قتلها الصَّادمة التي، في الحقيقة، كان نشاطها التَّمثيلي (representational) قد ساهم فيها إلى أبعد الحدود (فهي حتماً ما كانت لتُقتَل لو لم توافق على أن تكون قارئة لِستيل)، وبهذا فإنها تصبح "punctum"الفيلم. لكن أيَّة صورة، وكيف؟.
أعتقد أن علينا ملاحظة أن الكاميرا السِّينمائيَّة لا تُرينا جثة آتكِنْسُن، وفي ذلك كسر (مُتَعَمَّد) لتوقُّع المشاهِد الفضوليِّ والمتلهف. ما يحدث، بدلاً من ذلك، هو أن الجثمان، في المشهد الذي يدور في مركز الشُّرطة، يُمَثَّل (represented) لنا من خلال لقطات متوسِّطة التَّقريب (MCU) لعدَّة صور فوتوغرافيَّة التقطها المحقِّقون للجثَّة في أثناء معاينتهم موقع الجريمة. وهذا التَّمثيل (representation) الفوتوغرافيُّ إنَّما يدشِّن غياباً مضاعَفاً وحزيناً: إنه وصفٌ ميكانيكيٌّ لكائن غائب لم يعد موجوداً (بصورة مباشرة في السَّرد). لكنه، ويا للمفارقة، غياب يجعل حقيقة مصير القتيلة أقوى في الحضور التَّحنيطي/ الفوتوغرافيِّ على نحوٍ موتيٍّ تم القبض عليه في لحظة آبقة من الزمن والسَّرد المُتَوَقَّع. إنني، إذاً، أود المجادلة إنه، ضمن معطيات نظريَّة بارت، فإن ذلك هو التَّفصيلة "المُهَدِّدة" التي اهتم بها بارت على نحوٍ خاص في الـ "punctum"والتي توسِّع أفق الرُّعب أكثر بكثير مما كانت ستفعله لقطة، أو عدة لقطات، سينمائية مباشِرة لجثَّة القتيلة التي تظهر لثوانٍ قليلة (فوتوغرافيَّاً)، لكن شديدة الحدَّة والمَضاء، وهي – أي الجثَّة – مُنتَهَكَة، ومسلوبة، وخامدة، ولا حول لها ولا قُوَّة، لكنها "تملأ كل الصورة" حسب مفردات بارت في نظريَّته، والشُّعور برعب الموت يتقمَّص (تقريباً) "حياة" هي، في الحقيقة، خارج المشهد؛ فبوصفه جوهر الصُّورة الفوتوغرافيَّة يبرز الموت بصورة خاصَّة في مفهوم الـ "punctum"لدى بارت: "إن الموت شخص"، و"الموت هو التعبير المميز [لـ]ـلصورة الفوتوغرافية" (ومن دون أن أكون ميتافيزيقيَّاَ أكثر مما ينبغي، فإنني لن أتورع عن فتح قوس هنا كي أتذكر أن بارت نفسه قد جاءه إلهام تأليف كتابه عن التَّصوير الفوتوغرافيِّ بوحيٍ من تأمُّله صوراً فوتوغرافيَّة قديمة لأُمِّه الراحلة التي كان شديد التعلُّق بها، وقد مات بارت نفسه في حادث دهس مروري بعد أن فرغ من تأليف هذا الكتاب بالذات). بهذا المعنى، تصبح الصورة الفوتوغرافيَّة لجثَّة آتكِنْسُن "punctum" الفيلم. هذا وللكتابة صلة في الحلقة القادمة من "أنساغ".