No Image
بريد القراء

قرار الانسحاب.. بطـولـة أم ضـعـف؟

24 يناير 2025
24 يناير 2025

قد يعاتبك بعض الناس عندما تقرر التخلي عن أشياء كنت ذات يوم تحارب العالم بأكمله حتى تبقى مندفعًا نحوها، ضاربًا بكل ما علمتك الحياة من دروس وحكمة وراء ظهرك، لا تلتف لما يقال خلفك، بل تسير بقلبك نحو الأمام دون أن تمنح عقلك جزءًا يسيرًا من الوقت حتى يعمل على استفاقتك من غيبوبة قلبية لا تعرف عاقبتها.

يظن البعض أمرًا آخر وهو أنك فشلت في الصمود، وتصبح مادة مستساغة في أفواه الآخرين خاصة عندما يشاع بينهم أنك قد اتخذت قرار الانسحاب بشكل مفاجئ، فهم غير مدركين للحقائق التي ظهرت لكن في وقت متأخر، لذا قررت الانسحاب ليس لأنك تخشى المواجهة والاستمرار في التحدي، بل أحيانا التراجع عن الأشياء يكون معناه أنك قد وصلت إلى مرحلة القناعة التامة بأن ما تحارب من أجله لا يستحق ذلك مطلقا وما أنت إلا شمعة تحرق نفسها بنفسها.

هناك الكثير من الناس حتى هذا اليوم لديهم قناعة تامة بأن التراجع عن الخطأ هو نوع من الانهزام وعدم الصمود والتخاذل، ولكن الحقيقة تقول: «ليس كل منسحِب جبانًا، ولا كل ثابت شجاعًا، بعض الانسحاب شجاعة، وبعض الثبات جُبن، فالاعتذار انسحاب من ساحة الظلم، والإصرار على الأذى ما هو إلا ثبات على الباطل؛ لا أخفيكم سرا أني أحترم وأُقدر أولئك الأشخاص الذين يملكون شجاعة مغادرة القطار ما دامت وجهته خاطئة، وأحزن على أولئك الذين يستمرون وهم يعلمون أن نهاية الطريق ما هي إلا فشل وخذلان»، هذا جزء مما كتبته المدونة صفاء عزمون في مقال نشر إلكترونيا يتحدث عن «شجاعة الانسحاب».

أما الروائي الأمريكي بول أوستر فيرى أننا نحن البشر لا نشبه أنفسنا في كل الظروف، فكل واحد منا عبارة عن أشخاص مختلفين في ظروف مختلفة بمعنى أن الإنسان يدرك حقيقة الأشياء وذاته مع الوقت ولذا يحدث نوعا من التغير في بعض المسارات فيتنازل عن أفكار ويحارب عن أخرى حتى النهاية.

وطالما كان الحديث موجها نحو التأكد من حقيقة جدلية حول أهمية الانسحاب من المعارك الخاسرة، فإن البشر ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: شخص يعترف بالهزيمة فينسحب لأنه مقتنع بأنه خاسر لا محالة ولا يدعي القوة فيدمر كل شيء، وشخص يظل واقفا يتلقى الضربات الواحدة تلو الأخرى، ليس له أي مصدر للقوة، لكنه يكابر ويرتجي حصول «المعجزة» لتقلب موازين الحرب غير المتكافئة التي أدخل رأسه في جحرها أملا في انتصار لن يأتي أبدا طالما أنه الحلقة الأضعف والقطب الخاسر، والثالث يعلم أنه على خطأ وأن الهزيمة ستلحق به لا محالة ومع ذلك يتحالف مع غروره ويستمر في إلحاق الضرر بنفسه ومن معه حتى لا يبقى من قوته شيء إلا ويتم تدميره فيسقط في فخ الهزيمة والضياع.

أرى أن الانسحاب من المعارك بأقل الخسائر هي أفضل الحلول، أما الاستمرار أو التمني دون وعي فهذا هو الموت والخراب بعينه، أحيانا الحروب التي ندخل فيها يمكن أن تنتهي بكارثة كبرى إذا لم تضع الحرب أوزارها أو لم تعقد هدنة يعترف الضعيف بضعفه ويقدم التنازلات ليعيش من معه بسلام.

لا أؤمن مطلقا بأن التهور هو جزء من الشجاعة، بل الحكمة أن تعرف قوة من تصارعه أو تحاربه، فكرامة الإنسان تهدر عندما يصر على كسرها وإذلالها بقرارات غير صائبة.

الحياة مليئة بالكثير من المعارك الضروس، والإنسان يتلقى الصدمات طالما أنه يعيش وسط عالم يعج بالأشرار، لكن على الإنسان منا ألا يراهن على قضايا خاسرة ونتائج مؤكدة، بل عليه أن يجد منفذا يحافظ على حياته ويحفظ له كرامته وبقاءه في الحياة.

يرى العقلاء أن الانسحاب جبن إلا في ثلاثة مواضع وهي: «الانسحاب من نقاش عقيم لا نتيجة له، والانسحاب من علاقة رديئة لا مستقبل لها، والانسحاب من مكان لا يَعرف أهلُه قيمتَك».

قد تكون هناك مواضع أخرى غير التي ذكرت يكون في الجبن نوعا من حفظ الكرامة وسمو للنفس وحفظها من الانحدار وعدم التوفيق، فكلما سما الإنسان بنفسه، كان هناك نوع من عدم المساس بالروح من الانشطار أو إصابتها بالانكسار. أثبتت لنا الحياة من خلال ما تفاجئنا به كل يوم بأن الشجاعة لا تكمن في الاستمرار في الأشياء، بل في الانسحاب منها وتركها عندما تشعر بأنك تعطيها أكثر مما يجب، وهي تعطيك أقل مما تستحق، فتتآكل روحك ويتحول الحماس إلى هم تحمله على قلبك، فلا أنت تشعر بالسعادة، ولا أنت تملك القوة التي تجعلك تنسحب من كل شيء لا تحبه، ولكن كيف تعرف أنه حان وقت الانسحاب؟ ومتى اللحظة المناسبة؟ قد تتساءل كثيرًا وتنتظر ما يشجعك على هذه الخطوة، ولهذا هناك بعض الإشارات التي تلمح لك بأنه حان الوقت المناسب للانسحاب.