عُمان الوطن وعمان الصحيفة وذكريات مرحلة التأسيس
حين أتحدث عن سلطنة عمان وعن صحيفة عمان فإنني أجمع بين الذاتي والموضوعي، وبين ما هو خاص وما هو عام. وهو حديث عن جهد بشري كبير على مستويات عديدة متنوعة وطنياً وعربياً وإنسانياً.
والحديث عن عُمان الوطن وعُمان الصحيفة هو حديث من القلب وإلى القلب.. فهذا الجزء العزيز من الوطن العربي الكبير شهد قبل نحو خمسين عاماً حركة نهضة وتطور وتنمية شهد لها القاصي والداني بالعصرية والإنجاز والتوازن والجدية في مختلف ميادين الحياة ومجالاتها السياسية والاقتصادية والإعلامية والتعليمية والصحية والثقافية والعمرانية والسياسية والاجتماعية والإدارية والخدماتية على اتساعها وتنوعها.
وهذه الحركة الإصلاحية والتنموية الشاملة التي قادها السلطان الراحل قابوس بن سعيد، تغمده الله بواسع رحمته، شكلت نقلة حضارية، بالمعنى الواسع، من عصر إلى عصر، ومن الظلمات الى النور. وأصبحت سلطنة عمان دولة عصرية لها حضورها ومشاركتها المؤثرة ودورها الفاعل في الإطار الخليجي والعربي وعلى الصعيد الإقليمي والإسلامي والعالمي. وعلى المستوى الثنائي والجماعي، وعبر المنظمات الإقليمية والدولية.
وبالقدر الذي كان فيه هذا المشروع الإصلاحي شاملا فقد اهتم بمختلف مناحي الحياة العصرية وأبعادها وفعالياتها، وكان الإعلام العماني ذراعا قويا ومهما في هذا المشروع الطموح وما حققه من إنجازات كبيرة لتحديث الدولة وخدمة الإنسان العماني.
وحين أتحدث عن صحيفة عُمان وأحكي قصة إصدارها في عام ١٩٧٢م يتداخل لديّ، كما قلت ابتداء، الخاص بالعام والموضوعي بالذاتي. وتتفاعل مشاعر متنوعة وأحاسيس جياشة وعواطف حارة تعتمل كلها لتصوغ الحديث عن تجربة عميقة يمتزج فيها الإخلاص والوفاء والعمل الجاد بالانتماء الوطني والعربي وتتحد جميعا في منجز كبير في حينه، وبمقاييس تلك المرحلة البعيدة، والظروف الصعبة التي تضافرت فيها عوامل الحكمة والإرادة والإصرار لدى القيادة وعزيمة العاملين المخلصين وجديتهم للوصول إلى الأهداف العليا المنشودة.
لقد جاء إصدار جريدة عمان ليشكل ركيزة قوية من ركائز الإعلام العماني الجديد والنهضة الحديثة. وبمعطيات تلك المرحلة وقدرات الدولة وإمكانياتها المتواضعة في تلك الأيام.
إن تولي السلطان قابوس الحكم في ٢٣ يوليو ١٩٧٠ جعله في مواجهة مسؤوليات داخلية وتحديات خارجية كبيرة. ولذلك أعلن حركة النهضة المباركة وراح يدعو العمانيين إلى التعليم ولو تحت ظلال الشجر. فقد كانت المدارس الحديثة نادرة ومناهجها غير عصرية، ولكن الأمية لم تكن مطلقة بسبب وجود الكتاتيب والمحافظة على تعلم مبادئ الدين الإسلامي الحنيف وحفظ القرآن الكريم.
كان المشروع الإصلاحي العماني طموحا ووجد السلطان الراحل في العديد من أبناء عمان الذين كانوا يعيشون في دول عربية وأجنبية للعمل أو الدراسة وإن كانوا في ظروف صعبة، وجد فيهم الكوادر التي تساعد على إعادة بناء الدولة وتنفيذ المشروع الإصلاحي بهدوء ودأب بعيدا عن الاستعجال أو سياسة حرق المراحل الخطرة. وهكذا كان التعليم والإعلام المسؤول والاستعانة بخبرات واسعة عربية وأجنبية لتطوير الخدمات كافة، هو أساس التوجه إلى العمل والتنمية والبناء.
لم تكن سلطنة عمان قد عرفت الصحافة الحديثة وإن كانت هناك إصدارات صحفية قديمة في منطقة زنجبار في شرق إفريقيا التي كانت جزءا من عُمان في مرحلة من المراحل، كما ظهرت صحف أسبوعية ومجلات شهرية عمانية بين عامي ١٩٧١ و١٩٧٢م كلها تطبع في الخارج، وتوزع بشكل محدود جدا في داخل سلطنة عمان، ومنها: صحيفة الوطن لنصر الطائي ومجلات العقيدة لسعيد الكثيري والنهضة والأسرة، وكلها مؤسسات صحفية خاصة.
في ظل هذه الوقائع كان لابد من صحيفة عمانية حكومية تطبع في عمان وتكون صوتا إعلاميا للدولة.. وهكذا جاء قرار تأسيس صحيفة عمان. واتخذت المديرية العامة للإعلام والسياحة قرارا بإصدار أول صحيفة عمانية تطبع في مسقط وتكون لسان حال الحكومة.
كان لابد من الاعتماد على خبرات عربية في الإعلام العماني كله إلى جانب بعض الكوادر العمانية التي كانت تعمل في بعض دول الخليج. ونظرا للعلاقات الوطيدة التي تربط بين سلطنة عمان والمملكة الأردنية الهاشمية فقد تم اختيار إعلامي أردني كبير هو الأستاذ أمين أبو الشعر ليكون مستشارا إعلاميا لدى وزارة الإعلام في عمان وتكليفه بوضع مشروع إصدار جريدة عمان.
الأستاذ أبو الشعر الذي كان من الرعيل الأول في الصحافة الأردنية منذ أربعينات القرن الماضي واحد مؤسسي صحيفة الرأي الأردنية التي صدرت عام ١٩٧١م اختار معه لهذه المهمة اثنين من الصحفيين الأردنيين الشباب من كادر صحيفة (الرأي) والمؤسسين فيها، ليكونا معه، ويتوليا مسؤوليات التحرير في الصحيفة الجديدة.. وهما الزميل الأستاذ سليمان القضاة وكاتب هذه السطور محمد ناجي عمايرة إلى جانب كادر فني للطباعة والتصوير والإخراج، وما يتصل باحتياجات الصحيفة.
أبلغنا بالمهمة وكان علينا السفر خلال ثلاثة أسابيع. وكان موعد إصدار العدد الأول هو ١٨ نوفمبر ١٩٧٢م.
وصلنا إلى مسقط في أوائل نوفمبر وحللنا في سكن مؤقت لم يكن مهيئاً بشكل جيد. كما أن مبنى الصحيفة والمطبعة لم يكن منجزا ويفتقر إلى الأثاث، كانت البلاد في عطلة بمناسبة العيد الوطني الثاني، والأسواق لا يكاد يتوفر فيها إلا الكفاف.
وولدت أول صحيفة عمانية حكومية على أرض سلطنة عمان، لتحمل عنوانا رئيسيا عن الاحتفال بالعيد الوطني الثاني ويتضمن الخبر نص خطاب السلطان قابوس، طيب الله ثراه، بالمناسبة الوطنية.
لم تكن في البلاد وكالات توزيع أو وسائل نقل مريحة لإيصال الصحف إلى المدن والقرى في الساحل والداخل. وكان ذلك أمرا مهما آخر كان على الجهات الإدارية في مديرية الإعلام أن تعمل على معالجته.
لم يكن العدد الأول في مستوى طموحنا لكن صعوبات الأمر الواقع هي التي أملته علينا جميعا.
في العدد الأول ظهر في الصفحة الأولى التي خصصت لنص الخطاب السلطاني مقالان: الأول على اليمين للأستاذ ناصر سيف البو علي مدير عام مديرية الإعلام والسياحة والثاني على يسار الصفحة وهو للأستاذ أمين أبو الشعر بعنوان هذا البلد وهذه الصحيفة.
ومع توالي الأعداد الأسبوعية كان الواقع يتحسن تدريجيا. وأصبحنا نعطي جزءا من أوقات العمل للحصول على الأخبار وإجراء اللقاءات وكتابة المقالات والانتقال إلى الصحيفة المبوبة: المحليات وشؤون الولايات والشؤون الاقتصادية والرياضة والثقافة والأدب والمقالات والتحقيقات الصحفية.
وبعد عدة أعداد ظهرت في مسقط دار صغيرة للتوزيع والإعلان وتولت هذا الجانب المهم في إيصال الصحيفة إلى القراء الكرام بشكل مقبول.
حين نتحدث عن مرحلة التأسيس في أية صحيفة جديدة لا بد أن نجد مثل هذه الصعاب ومشاكل البدايات ليس في العدد الأول فحسب بل لما يزيد عن سنة أو اثنتين. لكن المشروع أخذ طريقه إلى النجاح وأصبحت الصحيفة مقروءة ومؤثرة.
كانت السلطنة في تلك السنوات من عقد السبعينات تتعرض لتحديات خارجية كثيرة تتصل بأمنها واستقرارها الذي هو جزء من الأمن الإقليمي والعربي. وكان (التمرد المسلح) في بعض أنحاء المنطقة الجنوبية (ظفار) يشكل تحديا كبيرا خاصة وأنه كان مدعوما من النظام الماركسي ومن الاتحاد السوفييتي أيامها.
ولذلك كان على الدولة أن تواجه احتياجات التنمية الشاملة والبنى التحتية في الداخل، ومخاطر الحركة الشيوعية العالمية وبعض توابعها المحلية والإقليمية على الحدود الجنوبية.
وهنا كان دور الإعلام العماني الجديد في هذه المواجهة الواسعة وهو دور مهم فكريا وسياسيا ودعويا عبر التلفزيون والإذاعة والصحافة.
وإذا كانت قوة التمرد المسلح انتهت في منتصف السبعينات فإن آثاره السياسية والاجتماعية والاقتصادية استمرت لسنوات أخرى، وكانت مواجهة ذلك تأخذ جهدا كبيرا على حساب مشاريع التنمية والتطوير والتحديث.
خلال السنة الثانية من عمر الصحيفة وما بعدها كان الاهتمام ينصب على التطوير والتحديث وتحسين المستوى فقد استبدلت وسائل الطباعة بالات وأجهزة أحدث وازداد عدد العاملين والكتاب وخاصة من الشباب العمانيين الذين افسح المجال أمامهم للتعلم والتدريب على مختلف متطلبات التحرير والعمل الصحفي. وتحولت الصحيفة إلى نصف أسبوعية عام ١٩٧٥ تصدر كل سبت وثلاثاء وبعد ذلك عام ١٩٨١ أصبحت صحيفة يومية.
أعود إلى تلك البدايات لأتذكر الزملاء الذين عملوا معنا سواء في التحرير أو الكتابة الصحفية أو أولئك الذين نشروا بعض ابداعاتهم الشعرية والنثرية في الصحيفة في سنواتها الأولى.
فبعد نحو خمسة أشهر من صدور العدد الأول استقال الأستاذ أمين أبو الشعر وغادر السلطنة عائدا إلى المملكة الأردنية الهاشمية. فأوكلت إلي مهمة (المحرر المسؤول) للجريدة.
ومع تولي صاحب السمو السيد فهد بن محمود وزارة الإعلام والسياحة اتبعت الجريدة إداريا لمديرية المطبوعات والنشر. وكان أول من تولى المديرية المرحوم الأستاذ أحمد سالم آل جمعة. ثم المرحوم الأستاذ نجيب عمر الزبيدي ومن بعده الأستاذ الشيخ هلال بن سالم السيابي. وكانوا جميعا يكتبون المقال الافتتاحي في الصفحة الأولى. ومن كتاب الصحيفة خلال تلك الفترة الأستاذ سليمان بن خلف الخروصي.
وكان لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة مساهمات مهمة تتناول مختلف الشؤون والقضايا الدينية والفقه الإسلامي. ومن الشعراء العمانيين الأستاذ بدر بن سالم العبري والشيخ هلال السيابي والأستاذ محمود الخروصي، والأستاذ سالم بن محمد المحروقي، والأستاذ عبدالله بن سلطان المحروقي الذي عمل في قسم التدقيق والتصحيح اللغوي وسواهم.
وقد عمل عدد من الشباب العماني في مجال التحرير وفي مقدمتهم الأستاذ حمود بن سالم السيابي الذي تبوأ بعد سنوات رئاسة تحرير عمان، والأستاذ محمد بن سليمان الطائي رئيس تحرير صحيفة الوطن لاحقا. والكاتب محمد بن حمد الرحبي، وفاطمة غلام التي تولت إعداد وتحرير صفحة المرأة والطفل. وقد اهتمت الصحيفة بأدب الشباب ونتاجهم الإبداعي ونشرت لهم العديد من القصص والقصائد والخواطر والمقالات .
كما أن الصحيفة حظيت بمساهمات أدبية وفكرية وصحفية لعدد من الزملاء المصريين الذين كانوا في أجهزة الإعلام العماني ومنهم الأصدقاء عبد العظيم مناف وسعيد منصور ومحمد جبرين ويوسف حجازي وأحمد الرزاز .. وغيرهم.
بقي أن أوجه تحية تقدير واحترام إلى كل الزملاء والزميلات في صحيفة عمان وسائر الصحف العمانية منذ السبعينات وإلى يومنا هذا على جهودهم الرائعة وسعيهم الدؤوب للدفاع عن الوطن وقضايا الأمة في ظل قيادة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق آل سعيد حفظه الله ورعاه.
الدكتور محمد ناجي عمايرة كاتب وصحفي وأكاديمي أردني وبين ثلاثة صحفيين ساهموا في تأسيس جريدة عمان.