جريدة «عمان» مشروع وطني وليس مجرد صحيفة يومية
بعد نصف قرن على إنشائها لا يمكن النظر أبدًا إلى جريدة «عمان» باعتبارها مجرد صحيفة يومية أضيفت في يوم من أيام نوفمبر 1972 إلى قائمة الصحف الصادرة في سلطنة عمان، وإنما يجب النظر إليها كمشروع وطني وثقافي طليعي لعب أدورًا مهمة في بناء الدولة الوطنية الحديثة وفي تكوين وتحديث النخبة العمانية وفي نقل المجتمع العماني من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث وفي نشر قيم المواطنة والمساواة وحق مشاركة المواطنين في الحياة العامة.
يعرف كل مطّلع على التاريخ أن نهضة عمان الحديثة التي بدأت في 23 يوليو 1970 بقيادة المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه-، ويواصل مسيرتها صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه - كانت ضرورة حتمية، وأن التحديات التي كان ينبغي تخطيها لإعادة بناء مجد هذا الوطن العزيز كانت تحديات جساما.
في هذا الإطار لم تكن «عُمان» الصحيفة مجرد سجل يومي ناقل لتاريخ إعادة بناء الدولة العمانية العريقة من الصفر تقريبا، ولم تكن مجرد شاهد ساكن ومحايد يكتفي بنقل أحداثها بل كانت الجريدة طرفا في فهم ونقل وتحليل وتعميم أفكار ومدركات القائد السياسي إلى شعبه في كل محافظات سلطنة عمان، وأيضًا إلى الجهاز الإداري والحكومي الوليد ونخبة القطاع الخاص التي كانت عملية التنمية الوليدة تعيد إحياءه وإحياء طبقة تجارية لطالما برعت تاريخيا في ريادة التعامل مع الساحل الإفريقي وجنوب وشرق آسيا.
لقد كتبت غير مرة أشير إلى أن غرس قواعد التحليل السياسي المبني على مدرسة العلوم السياسية الحديثة بدأ في سلطنة عمان فقط مع جريدة «عمان» فقبلها كانت المحاولات الصحفية السابقة تنشر كتابات جادة ولكنها كانت لا تزيد عن اجتهادات شخصية تختلف من شخص لآخر وليس كتابات مبنية على مناهج بحث علمية مجربة ومطبقة في النظم السياسية الحديثة في العالم المتقدم.
وقيمة هذه الإضافة التي سبقت بها الجريدة أنها وفرت الأقلام الفاهمة والمساحات والسياسات التحريرية القادرة على شرح ونشر وبلورة وبالتالي إسناد ودعم الجريدة لأربع مهام تاريخية كبرى تمكنت القيادة العمانية من تحقيقها.
الأولى: هي مهمة المصالحة الوطنية
منذ اليوم الأول للنهضة فتح النظام السياسي الوطني الجديد الأبواب على مصراعيها لإنهاء الانقسام وعودة أبناء الوطن الذي كان قد هاجر جزء متميز منهم طلبًا للعلم أو الرزق أو ابتعادا عن أوضاع كانت غير مواتية قبل 1970.
وبحلول نهاية عام 1975 واكتمال النصر لقوات السلطان المسلحة كانت عُمان تغلق صفحة قديمة وتفتح صفحة جديدة. صفحة ناجحة وكاملة من المصالحة الوطنية الشاملة بين مناطقها وبين أبنائها. فاكتمل انضمام كل مخلص وقادر بعد 11 نوفمبر 1975 مهما كان موقعه الجغرافي خارج أو داخل عُمان وموقعه السياسي إلى عملية البناء الوطني الجديد مشاركا في هيكل الحكومة الجديدة أو في نشاط القطاع الخاص. وهنا كانت الجريدة طرفًا أصيلًا في الدعوة للمصالحة والتشجيع على العودة لحضن الوطن وأخذ زمام المبادرة في إيجاد حوار ونقاش وطني على صفحاتها يشرح دورها الحاسم في إعادة بناء الوطن.
الثانية: هي تحقيق الاندماج الوطني وبناء دولة المواطنة
ساهمت صحيفة «عمان» بمقالاتها وتحقيقاتها وإعطاء المثل في هيكلها الصحفي والإداري بتوظيف الأكفاء من العمانيين من كل مناطق وقبائل وأعراق عُمان دون تمييز، وساهمت بشكل رائد في دعم الإنجاز الكبير للقيادة السياسية في تحقيق الاندماج الوطني وإعادة التماسك الاجتماعي وصهر التنوع الكبير في تكوين المجتمع داخل بوتقة واحدة هي بوتقة «المواطنة» العمانية التي تساوي بين الجميع في حقوق الحصول على فرص التعليم والعمل والصحة والخدمات الاجتماعية بغض النظر عن الجندر أو الأصل المناطقي أو العرقي أو المذهبي.
لقد حولت القيادة - ومعها إعلام قادر على التفاعل وعلى بلورة الرضا العام عن هذه العملية الجبارة الدولة العمانية - بمعايير الدولة الوطنية الحديثة - في مركز متقدم في المنطقة مقارنة بغيرها وكيف تمكنت من احترام التعدد وجعله نقطة قوة وليس قوة ضعف وكيف صاغته تعددا في إطار الوحدة الوطنية الشاملة والراسخة.
الثالثة: هي نشر قيم الاستنارة والتقدم
لم يكن لدى عمان شعبًا وحكومة رفاهية إضاعة وقت آخر في الابتعاد عن عصرها وعالمها. ولم تكن قيم العزلة والتقوقع على الذات وضعف مؤسسات التعليم والحداثة العصرية لتصلح لمهمة إحياء مجد عمان دولة ومجتمعا. وهنا أقول إن جريدة «عمان» بسياستها التحريرية المنفتحة على فكرة التحديث والذي عبّر عنه ملحقها الثقافي القديم الرائد وملحقها الثقافي الحالي الأكثر شمولًا وشجاعة إنما لعبت دورا طليعيا تقدميا في مواجهة الجمود والتقليد والعيش في الماضي وفتحت نوافذ بل أبوابا واسعة للأفكار الجديدة. وهو دور يمكن إدراك قيمته الآن إذا تذكرنا أنه لم تكن وقتها قد أنشئت جامعة السلطان قابوس التي لعبت وتلعب في الوقت الحاضر مع جامعات وكليات عامة وخاصة دور منارات جديدة للتنوير. ولسنوات طويلة كانت جريدة «عمان» قد أخذت على عاتقها شبه منفردة القيام بهذه المهمة. لمعرفة الأثر ربما يكون علينا أن نربط وقائع التطور الثقافي والاجتماعي بعضها ببعض؛ فعندما نشاهد مثلا في أقل من 3 أعوام فوز كاتبتين عمانيتين هما جوخة الحارثي وبشرى خلفان بجائزتين كبيرتين دولية وإقليمية في الرواية ربما علينا أن نتذكر كيف كان ذلك في جزء منه نتاج غير مباشر وتراكمي لعملية التنوير التي غرست بذرته الجريدة الرائدة وغرسته معها لاحقا مؤسسة الجامعة ومؤسسات أخرى أسسها المثقفون والصحفيون والأدباء والفنانون (النادي الثقافي، نادي الصحافة، جمعية الكتاب والأدباء، جمعيات الفنون التشكيلية ومسرح الشباب.. إلخ).
المهمة الرابعة: «جريدة عمان» كانت مصنعا كبيرا من مصانع إنتاج النخبة
مهام المصالحة الوطنية وبناء التماسك الاجتماعي والاندماج الوطني والخروج من مجتمع وعصر ما قبل الحداثة إلى مجتمع وعصر الحداثة كان يحتاج إلى وجود نخبة عمانية تعمل إلى جانب القيادة السياسية لتنفيذ وتحقيق هذه المهام خاصة وأنه كان قد جرى تجريف شبه كامل للطبقة الثقافية والسياسية العمانية لعقود طويلة في مرحلة ما قبل النهضة.
وفي هذا السياق لعبت «جريدة «عمان» بكل تواضع دورا فارقا في تحديث النخبة الوطنية ورفدها باستمرار بأجيال جديدة من الصحفيين والمبدعين والمحللين والأكاديميين والمترجمين عندما فتحت صفحاتها لنشر إنتاجهم الفكري والإبداعي. ويكفي أن أشير هنا كيف استقطبت «ملاحق» الجريدة السياسية والثقافية والاقتصادية والرياضية الخبرات الوطنية في كل مجال وصار كثير منهم نجما في حقله المعرفي أو المهني. لكن الإنجاز الأكبر يمكن أن يقدمه في الحقيقة إحصاء دقيق يرجى أن يتم في المستقبل القريب؛ ألا وهو هذا العدد الكبير من الوزراء والوكلاء والسفراء وأعضاء مجلسي الشورى والدولة ورؤساء التحرير والأدباء والشعراء والمترجمين ومراسلي الوكالات والصحف الذين أنتجتهم تجربة «جريدة عمان». فالعديد العديد ممن شاركوا ويشاركون في بناء الدولة العمانية الحديثة بمهام تنفيذية إما تولوا العمل أو قيادة الصحيفة إداريا أو تحريريا أو ساهموا فيها بمشاركات وضعتهم ولا تزال في مرمى بصر اختيارات القيادة ووضعتهم أمام أعين الرأي العام.
كاتب وإعلامي عمل في جريدة «عمان» بين 1984و1994