أحمد الفلاحي.. رحلة طويلة مليئة بالتفاصيل
شمس تشرق في كل مكان -
عاصم الشيدي -
في يوم من أيام عام 1952 وفي قرية بطّين بوادي نام بولاية القابل من شرقية عُمان سُمعت صوت صرخة طفل تردّد صداها في مساحات واسعة من المنطقة الشرقية. تخالطت صرخة الطفل الوليد بأصوات مجموعة عمانيين كانوا يستذكرون ديوان المتنبي في مساءات عمان المضاءة بأنوار الله وحدها. كان أحدهم يقرأ بالطريقة العمانية قصيدة المتنبي:
واحرّ قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
كانت أخبار تصل إلى قرى عُمان يتهامس بها العمانيون في مساءاتهم أن النظام الملكي في مصر قد سقط وأن مجموعة من الضباط الأحرار استولوا على الحكم وكان بينهم البكباشي جمال عبدالناصر، وأن كتابات للصحفي المصري المعروف في أخبار اليوم محمد حسنين هيكل تبشر بالعهد الجديد وتدعمه بالكلمة والحرف.
كانت تلك الصرخة لطفل اسمه أحمد بن عبدالله الفلاحي. ستبقى الصرخة تتردد إلى حين في أنحاء وادي نام، وستتعالق حد الهيام بالمتنبي وبعبدالناصر وبمحمد حسنين هيكل وكأن تلك الصرخة التي انطلقت في ذلك الوقت بالذات قد عُمدت في إناء حبهم الأبدي.
لم يكن في تلك المرحلة الفاصلة من تاريخ عُمان قد عرف التعليم النظامي الحديث.. لكن الأطفال كانوا يتحلقون حول معلم القرية الذي يهتم بتعليم الطلاب القرآن الكريم وعلومه وبعضا من علوم العربية.
لكن قرية بطّين في ذلك الوقت كانت شبه خاوية.. ولم يكن فيها مجال حتى لحلقة تعليم بسيطة يتحلق فيها أطفال حول معلمهم.
يقول أحمد الفلاحي أذكر أنني عندما بدأت أعي كانت قريتي شبه خاوية من السكان.. لقد هجروها من شدة المحل والجفاف، وكنتُ أمرّ مع والدتي في أنحاء القرية وأرى البيوت وقد أُغلقت بأقفال ضخمة جدا، ما زالت ساكنة في ذهني حتى اليوم.يقول أحمد الفلاحي أذكر أنني عندما بدأت أعي كانت قريتي شبه خاوية من السكان.. لقد هجروها من شدة المحل والجفاف، وكنتُ أمرّ مع والدتي في أنحاء القرية وأرى البيوت وقد أُغلقت بأقفال ضخمة جدا، ما زالت ساكنة في ذهني حتى اليوم.وهذا المشهد يصدق عليه وصف بيت شعر قاله جد والد أحمد الفلاحي محمد بن سالم الفلاحي حين قال واصفا هجرة أبناء القرية:فمنهم قَرَتْهم من عمان مرابع ومنهم بأرض الزنج قد حل واستقر بقي أحمد الفلاحي في كنف جده بعد هجرة والده إلى شرق إفريقيا. وتولت والدته تربيته وتعليمه. لا يتذكر الفلاحي ملامح جده رغم أنه توفي وعمره 6 سنوات، لكنه يتذكر بعضا من توجيهاته.يقول الفلاحي عندما كنت أصل إلى حيث يجلس جدي صباحا وأُقبّل يده يقول لي:«قل آمنت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا». كان جده فقيها معروفا في شرقية عُمان، ويستفتيه أهالي قريته والقرى المجاورة في أمور الفقه والعبادات. وكانت والدة الفلاحي من النساء القليلات المتعلمات اللائي يقرأن ويكتبن. وعندما كبر الجد وقل نظره كانت بمثابة سكرتيرة له، تقرأ له الرسائل الواردة من شيوخ عمان وعلمائها، ويملي عليها الردود، وكان خطها جميل كما يقول الفلاحي.. كما كانت تقرأ له الكتب الجديدة التي تصله.وتولت الوالدة نفسُها تعليم ابنها أحمد.. فقرأ عليها القرآن في مرحلة مبكرة من عمره، وعلمته علوم القرآن والسنة والفقه. وعلمته علوم النحو عبر أرجوزة «مُلحة الإعراب». يقول الفلاحي كنت أحفظ هذه القصيدة كما كنت أحفظ غيبا كتاب تلقين الصبيان. ولم تكتفِ الأم بذلك بل علمت ابنها الخط والشعر، وكانت تحفظه نونية أبي مسلم البهلاني وغيرها من الأشعار.بعد سنوات عاد الخصب إلى قرية بطّين وعاد الناس من مهاجرهم وعادت الحياة للقرية وازدهرت ازدهارا كبيرا. ويستذكر الفلاحي بيتَ شعر لخال جده صاحب البيت السابق الذي يصف بطين في حالة محْلِها، لكن الخال كان يصف بطين وعموم وادي نام في حالة الخصب يقول: وبطين فيه درة العقد إنها تحاكي بلاد الشام في الحسن إذ تطرأ والفلاحي عاش تفاصيل هذا البيت في قريته كما عاش تفاصيل بيت جده. وفي ظل الظروف الجديدة عاد والده من افريقيا. كان لجد الفلاحي مكتبة كبيرة في البيت تضم أغلب كتب عُمان التي طُبعت في زنجبار، وبعض الكتب المخطوطة. لكن الفلاحي كان ممنوعا من الوصول لتلك الكتب في مرحلة من مراحل عمره فيما كان يتطلع لها بشغف كبير. كانت والدته تقول لا عندما يشير لها إلى مجلدات ضخمة في المكتبة. لكن لم يدم النهي طويلا ووجد الفلاحي نفسه يقرأ دواوين الشعر وكثيرا من الكتب التي يقول إنه «لم يكن يعيها تماما»، لكنه قرأ الشعر.. قرأ المتنبي بشكل كبير وأبا العلاء المعري وأبا تمام والبحتري وشعراء عمان.لكن اللحظة الفارقة في حياة أحمد الفلاحي حدثت في عمر 12 سنة. كان يزور مع أهله راشد بن علي الفلاحي وهو أحد رجال القرية عاد لتوه من السفر في الخليج. وكان يسافر لفترات قصيرة ويعود ويبقى في القرية قليلا ثم يعود للسفر مرة أخرى. في تلك الزيارة شدت الفلاحي كتيبات في بيت الرجل كانت تحمل عناوين من مثل «تودد الجارية» و«حكاية إبليس» وغيرها من العناوين.. طلب الفلاحي أن يستعير تلك الكتيبات ليقرأها.. كان الأمر جديدا على الفلاحي. وفي رحلة قادمة جاء الرجل من سفره بكتاب «ألف ليلة وليلة» ويتذكر الفلاحي جيدا أن الشيخ محمد قطه العدوي هو من أشرف على تلك الطبعة وجاءت في أربعة مجلدات.اكتشف الفلاحي هذا الكتاب الساحر وطلب أن يستعيره، لكن راشد بن علي رفض أن يعيره بحجة أنه لا يناسبه. ومع إصرار أحمد الفلاحي على استعارة ولو الجزء الأول من الكتاب وافق راشد بن علي. وبدأ يقرأ الكتاب بشغف كبير إلى أن اكتشف والده الكتاب وسأله من أين لك هذا الكتاب؟ فقال له استعرته من عند راشد بن علي الفلاحي، فأخذ الوالد الكتاب وأعاده لصاحبه وقال له لا تعطي ابني مثل هذه الكتب. كانت سمعة كتاب «ألف ليلة وليلة» سيئة عند شيوخ العلم في عُمان، ومن وجهة نظرهم لا يليق أن يقرأه أبناؤهم. كان الفلاحي قد قرأ أغلب الجزء الأول من الكتاب. وعاد إلى راشد بن علي وألحّ عليه أن يعيره بقية الأجزاء ولكنه رفض ومع استمرار الإلحاح أعاره بقية الأجزاء شرط أن يخبئها عن والده.يقول الفلاحي «لم يفتنّي في حياتي حتى اليوم كتاب كما فتنني كتاب ألف ليلة وليلة». وكان ألف ليلة وليلة من بين الكتب غير الدينية التي تأسس عليها الفلاحي، إضافة إلى كتاب «جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب» وهو كتاب جاء به والده من زنجبار بعد عودته.ومن خلال راشد بن علي اكتشف الفلاحي لأول مرة مجلة العربي الكويتية. فبعد إحدى رحلات راشد الكثيرة جاء بالمجلة. وكالعادة ذهب الفلاحي مع أهله للسلام على راشد، ووجد في «سبلته» هذا الكتاب الذي تفاجأ به.. حيث كانت المرة الأولى التي يرى كتابا على غلافه صور، وفي داخله صور، ولا يكتبه شخص واحد فقط وإنما مجموعة من الكتّاب.يقول الفلاحي شدني مقال «حديث الشهر» للدكتور أحمد زكي وقرأته رغم أن وعيي لم يكن باستطاعته أن يستوعب كل ما قرأت. استعرت المجلة وقرأتها كاملة.. ولأول مرة أتعرف على الحروب في العالم من خلال أحد المقالات، ولأول مرة أقرأ حوارات من خلال المجلة. وكانت هذه التجربة أول عهدي بالصحافة، والحديث للفلاحي.ومن بين التجارب التي أثرت في ذهن الفلاحي وفتحت أفاقا جديدة مرافقته لوالده إلى مطرح وكان في العاشرة من عمره .. كان الأمر فتحا كبيرا بالنسبة للفلاحي، وهناك رأى البحر لأول مرة، ولأول مرة دخل إلى مستشفى الإرسالية واستمع إلى «العظة» الصباحية للقسيس/ الطبيب طومس. كان العمانيون يتجمعون لسماع هذه العظة اليومية ولحديث طومس الذي كان يتكلم بلغة عربية فصيحة عن المسيح وعن المسيحية قبل أن يبدأ واجبه الطبي.الغريب أن الفلاحي يقول إن الناس بعد أن يخرجوا من تلك العظة يسخرون من هذا القسيس الذي كان يعتقد أن العمانيين يمكن أن يتركوا دينهم ويعتنقوا المسيحية.يقول الفلاحي: كان أهلنا يقولون إن البحر يشبه الوادي الكبير.. وكنت قد قرأت عن البحر في قصص ألف ليلة وليلة ولكن مرآه كان مختلفا ومرأى البواخر وهي تقف في ميناء مطرح مختلف تماما.■ ■ ■في حدود عام 1965 وكان الفلاحي قد بلغ قرابة 13 عاما قرر مع بعض أبناء عمه ممن يكبرونه في السن أن يهاجر من عُمان طلبا للعلم والرزق. لكن والده كان متحفظا على الأمر ولم يسمح له بالسفر.. يقول الفلاحي «ولكني هربت في الحقيقة وسافرت». خرج الفلاحي من عُمان إلى دبي، ومن دبي ركب مركبا إلى البحرين وبقي في البحرين قرابة شهرين. وفي البحرين تعرف الفلاحي أكثر على مجلة العربي وعلى دواوين شعر جديدة وعلى كتب جديدة خرجت به من إطار الكتب التقليدية إلى كتب مختلفة تماما عما كان يقرأ ويجد. ومن الطرائف التي يحكيها الفلاحي عن رحلته للبحرين أنه كان يؤمن إيمانا تاما أن جهاز الراديو يتلبسه الشياطين، ويتحدثون من خلاله للتأثير إلى إيمان المسلمين. وكان يجادل بعض الشباب العمانيين المستنيرين على متن السفينة التي أقلته للبحرين وكانوا يحاولون توضيح وجهة نظرهم لكنه بقي عند رأيه لا يتزعزع. لكن بقاءه في البحرين غير تلك الفكرة من رأسه بعد أن سمع عبر صوت العرب خطب الزعيم جمال عبدالناصر وسمع مقالات محمد حسنين هيكل بصوت أحمد سعيد. ثم خرج من البحرين إلى المملكة العربية السعودية، وإلى الدمام بالتحديد.كان الخيار هناك أن يلتحق بمدرسة الإمامة أو أن يلتحق بمدرسة نظامية مسائية حيث يعمل في الصباح ويدرس في المساء. بقي الفلاحي قرابة عام كامل في السعودية على هذا الحال.في الدمام التقى الفلاحي لأول مرة بالأستاذ عبدالله الطائي الذي ستربطه به علاقة كبيرة بعد ذلك. كما التقى بالشيخ محمد الشيبة الذي ستربطه به علاقة قوية هو الآخر ومراسلات طويلة.لم يدم بقاء الفلاحي في السعودية طويلا، حيث تركها وذهب للكويت، وفي الكويت أشار عليه البعض أن يذهب لبغداد، وذهب لبغداد، ولكنه وصل في منتصف العام الدراسي واقترحوا عليه أن يذهب لدمشق وبقي في دمشق عاما كاملا.. لا يذكر الفلاحي اسم المدرسة التي التحق بها في دمشق.. ولكنه يذكر أنه خرج من دمشق إلى بيروت في عز مجدها. في دمشق كان المقترح أن يذهب إلى مصر، وكان الفلاحي الذي فُتن بالقومية والناصرية في تلك المرحلة مشدودا للذهاب لمصر لكن الرحلة لم تكن لتستوعب أكثر من شخصين من زملائه فيما بقي هو في دمشق. وخلال هذه الرحلات تعرف الفلاحي على الأفكار والفلسفات السائدة في تلك المرحلة، فتعرف على الإماميين عن قرب وتعرف على القوميين وتعرف على البعثيين العراقيين والبعثيين السوريين ودارت في عقله الكثير من الصراعات وكانت عُمان نصب عينيه ينتظر متى تستيقظ مما كانت تغط فيه من تخلف ورجعية.وفي عام 1968 عاد الفلاحي إلى أبو ظبي وجلس هناك مدة من الزمن. ويتذكر الفلاحي أن مجلة عربية كانت تصدر في بيروت نشرت على غلافها صورة للسيد سعيد بن تيمور وكتبت عنوانا كبيرا«قابوس سلطانا وطارق رئيسا للوزراء والحارثي واليا مطلق الصلاحيات» كان ذلك قبل شهور من تولي جلالة السلطان مقاليد الحكم في عُمان. وفي الوقت نفسه تعرف الفلاحي على شاب فلسطيني في مثل عمره وعرفه هذا الشاب على والده وقال له إن عهدا جديدا ينتظر عُمان.إزاء هذا الأمر كتب الفلاحي رسالة إلى الشيخ محمد الشيبة وكان قد خرج حينها من السعودية إلى الكويت وأخبره بما قرأ وسمع. ورد السالمي على الفلاحي برسالة يقول فيها: عسى أن ينقذ الله هذا الشعب المشتت».يقول الفلاحي سافرت بعد أن وصلتني رسالة الشيبة إلى الكويت، ولم يمضِ وقت طويل حتى وصلت بشرى تولي جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم مقاليد الحكم.كان الفلاحي في بيت الشيخ محمد الشيبة وكان هناك ابناه أحمد وسليمان ويتحلقون جميعا حول مائدة الغداء. وكانت النشرة الرئيسية في إذاعة الكويت تُبث الساعة الواحدة ظهرا بتوقيت الكويت الثانية ظهرا بتوقيت عمان. وقرأ المذيع الخبر الأول في النشرة الذي يقول إن السلطان قابوس تولى مقاليد الحكم خلفا لوالده سعيد بن تيمور. وبسرعة بديهة قال الشيخ الشيبة: «قطعت جهيزة قول كل خطيب» في إشارة إلى أن وصول السلطان قابوس لسدة الحكم يوقف كل الصراعات الفكرية الحادثة في المنطقة وتخص عمان في تلك المرحلة.كان الشيخ محمد الشيبة يوبخ الفلاحي دائما لأنه يضيّع ماله القليل في شراء الصحف والمجلات التي تتحدث عن السياسة والحروب. ولكن بعد خبر وصول جلالة السلطان قابوس للحكم كان يحثه يوميا لشراء الصحف وقراءة كل جديد عن التغيير الحاصل في عُمان.ترك الفلاحي الكويت سريعا عائدا لعمان للمشاركة في النهضة الجديدة. وفي طريق عودته أصيب بحادث سير أليم في مدينة الخبر السعودية. كان هو وصديقه حمود بن سالم الحارثي عائدين من زيارة صديق مشترك لهما ويركبان دراجة هوائية عندما صدمتهما شاحنة يقودها أمريكي يعمل في شركة أرامكو. توفي صديقه الحارثي على الفور فيما بقي الفلاحي أربعة أشهر في حالة مأساوية في مستشفى الشرق بالخبر. بعد أيام استعاد الفلاحي وعيه الذي فقده لأيام من شدة الصدمة. وفي فترة العصر كان يزوره الأصدقاء والعمانيون المقيمون هناك.. وكان يحتاج إلى بعض الحبوب المسكنة من أجل أن يستطيع الانتباه واستجماع وعيه وسماع نشرات الأخبار من إذاعة أبوظبي ليعرف الجديد الذي يحدث في عُمان.وكانت إذاعة أبوظبي قد أوفدت فريقا خاصا لتغطية الحدث الكبير في عُمان.. وكان رئيس الفريق الإذاعي المذيع أحمد المنصوري ويرافقه أحمد بن سالم آل جمعة الذي سيصبح لاحقا مديرا عاما للمطبوعات والإعلام. استمر الفلاحي يستمع لإذاعة أبو ظبي من مذياع جلبه معه من الكويت ويتحلق حوله العمانيون أيضا لسماع الأخبار وهو في المستشفى لمدة أربعة أشهر.وكان طبيب لبناني يشرف على علاجه ويرفض أن يصرف له الحبوب المسكنة للآلم بحجة أنها تبطئ علاجه ولها آثار جانبية. لكن طبيبا فلسطينيا تعاطف معه، كما يروي الفلاحي، ويصرف له الحبوب في غياب الاستشاري.وفي تلك الفترة جاء الشيخ سعيد بن حمد الحارثي موفدا من الحكومة العمانية إلى الخُبر للالتقاء بالعمانيين هناك، وسمع بحادث الفلاحي وكان يعرف والده معرفة كبيرة فزاره. وصادف أن الفلاحي منع ذلك اليوم من أخذ الحبوب المسكنة، وكان يتألم بشدة ويفقد وعيه وبدا لزواره أن حالته ساءت ووصل إلى النهاية.عاد الشيخ سعيد بن حمد الحارثي ووجد والد الفلاحي يريد أن يسافر للخبر لزيارة ولده فقال له : لا تفعل. واحتسب أجرك على الله فوضع ولدك صعب جدا وقد يصلك خبره في أي وقت. بعد ذلك اليوم بشهر تقريبا خرج الفلاحي من مستشفى الشرق في الخبر وعاد لعُمان ووصلها ليلة عيد الأضحى. وكان العيد بالنسبة لأهله وأحبابه عيدين.كان الأستاذ عبدالله الطائي قد عين وزيرا للإعلام والشيخ سعود الخليلي وزيرا للمعارف وعرض الأخير على الفلاحي أن يعمل مدرسا براتب قدره 65 ريالا، لكن الطائي ضغط على الفلاحي قائلا أن مكانك الإعلام وليس التربية والتعليم.. وعمل الفلاحي في قسم الأخبار بالإذاعة مطلع عام 1971 براتب وقدره 54 ريالا نزولا عند رغبة وضغط الأستاذ عبدالله الطائي ولو براتب أقل.■ ■ ■بقي الفلاحي مغرما بالقراءة وقد أتاح العهد الجديد له الكثير من المراجع حيث كانت تصل إلى قسم الأخبار معظم الصحف والمجلات التي تصدر في العالم العربي.. وكان يستطيع سماع نشرات الأخبار وتحليلاتها بحكم عمله.وفي هذه المرحلة تعرف الفلاحي أكثر على كتابات طه حسين ويوسف السباعي ونجيب محفوظ الذي سيحضر لاحقا مجلسه في القاهرة عدة مرات.. وبقي حبه للراحل جمال عبدالناصر وكذلك لمحمد حسنين هيكل الذي سيحرص أيضا على متابعة كل كتبه وكل أخباره ويحضر الكثير من محاضراته في الجامعة الأمريكية أو في معرض القاهرة للكتاب.أما الكتابة فكانت تراود الفلاحي منذ فترة مبكرة أيضا، وكان أول ما راوده كتابة الشعر على عادة المشهد العام في تلك المرحلة من عُمان.وفي كتابه عن بطين نشر الفلاحي صفحة من قصيدة كان قد بعثها لوالده وهو في الدمام يقول في بيت من أبياتها:أبتاه إني اليوم في الدمام ألتاع في أرق وفي إيلام
أبتاه والهم الكبير بأضلعي والشوق نحوكم يهد عظامي
في عام 1974 طرح صديقان من أصدقاء الفلاحي وهما حمد بن محمد الراشدي ويحيى بن سعود السليمي اللذان سيصبحان لاحقا وزراء الأول للإعلام والثاني للتربية والتعليم، طرحا على الفلاحي فكرة إنشاء ناد للثقافة.. تفاعل الفلاحي مع الفكرة وعرضوا الأمر على عبدالله بن صخر العامري ومحمود الخصيبي.عُدل الاسم إلى النادي الوطني الثقافي ومارس النادي أنشطته الثقافية والشبابية. واستمر لخمس سنوات بجهود ذاتية من أعضائه وبدعم من جلالة السلطان. وصدر عن النادي مجلة اسمها «الثقافة الجديدة» كان محمود الخصيبي رئيسا لتحريرها ثم صار حمد بن محمد الراشدي رئيسا للنادي ورئيسا لتحريرها. لكن المشروع توقف بعد ذلك لظروف مادية.وفي عام 1977 شارك الفلاحي مع مجموعة من رفاقه في نادي المضيرب الذي تأسس حديثا في إصدار مجلة الغدير. وهي مجلة معروفة في عُمان كان الفلاحي مديرا لتحريرها فيما كان رئيس تحريرها الشيح أحمد بن حمد الحارثي رئيس نادي المضيرب في ذلك الوقت.صدر من المجلة 74 عددا قبل أن تتوقف هي الأخرى.■ ■ ■في عام 1981 انتقل الفلاحي من وزارة الإعلام بعد عشر سنوات في الإذاعة إلى وزارة التربية والتعليم، وبعد عام كامل من العمل في مديرية البعثات ذهب للبحرين ملحقا ثقافيا في سفارة السلطنة هناك، وبقي حتى عام 1987.وهناك تعرف على الكثير من المبدعين في البحرين كان في مقدمتهم إبراهيم العريض وقاسم حداد وعلوي الهاشمي والسعودي غازي القصيبي الذي كان يعمل سفيرا لبلاده في المنامة.وفي أواخر عام 1989 ذهب الفلاحي للقاهرة للعمل في الملحقية الثقافية هناك. وكانت القاهرة بالنسبة للفلاحي حياة أخرى مختلفة عن كل حيواته السابقة. استعاد فيها الكثير من الأمكنة التي كان قد قرأها في ما كتبه أدباء مصر عنها. تعرف هناك على جمال الغيطاني الذي سيصبح أحد أعز أصدقائه هو ويوسف القعيد واللذان أخذاه إلى جلسات حرافيش نجيب محفوظ.■ ■ ■الذين يزورون الفلاحي في شقته يعرفون حجم ولعه بالكتب.. فالشقة في مجملها عبارة عن مكتبة تتكدس فيها الكتب في كل مكان. ورغم أن الفلاحي لا يوافق غالبا على وصف مكتبته بأنها من بين كبريات المكتبات الشخصية في عمان لكن الحقيقة أنها كذلك. وتجمع بين نوادر الكتب في كل المجالات. فمكتبته ليست مكتبة دينية ولا مكتبة تقليدية . بل فيها كتب الأدب القديم والحديث وفيها كتب الثقافة والسياسة والمسرح والفنون التشكيلية ، فيها تتجاور الأصالة بالمعاصرة والتقليدي مع الحداثي . ولكن الأهم فيها أغلب الكتب التي كتبت عن عُمان من الكتاب العرب والغرب.ورغم أن الفلاحي يقول إن الكثير من كتبه ضاع خلال ترحاله الطويل إلا أن مكتبته المقسمة على عدة غرف في شقته وفي الممرات تضم كل كتاب قد يخطر على البال.فهي تحوي على الأعداد الكاملة من مجلة الرسالة الشهيرة، ومجلة الآداب، ومجلة العربي، ومجلة وجهات نظر، ومجلة المستقبل العربي ومجلة هنا البحرين وعشرات من المجموعات الكاملة لمجلات توقفت عن الصدور منذ زمن طويل . ويرتحل الفلاحي وراء معارض الكتب من أجل اقتناء الجديد، أو من أجل الحصول على كتاب سمع عنه أو قرأ فتملكه قبل أن يقرأه.لكن المثير أن الفلاحي الذي كان يقرأ كتاب ألف ليلة وليلة في سرية تامة يملك اليوم في مكتبته عدة نسخ من ألف ليلة وليلة حتى الطبعات النادرة منها التي صدرت في الهند وفي ألمانيا وفي القاهرة لأنها ربما بداية مرحلة التحول نحو ما هو مثير وغير تقليدي في رحلة الحياة.■ ■ ■سيقول الشاعر الكبير نزار قباني عن أحمد الفلاحي في رسالة بعثها لسيف الرحبي بعد زيارته لمسقط «كان كتيبة من الشعر، والظُرف، والرواية، والثقافة بطحتنا جميعا على الأرض.. إنه واحد من الظرفاء العرب الذين سلِموا من هذا العصر الثقافي الحديث الذي لا مثيل لغلاظته!!»فيما سيكتب جمال الغيطاني بعد ذلك بسنوات عن الفلاحي يقول: «إنكار الذات، والتواضع، والدماثة ، الحرص على تقديم الآخرين، هواية من يخطون على الطريق في بداياته، تلك سمات أحمد الفلاحي، رغم أنه كتب مئات المقالات في الصحف العمانية والعربية».■ ■ ■