الوحـدةُ في السّـرديّـة القـوميّـة
بُـنِيَ الخطاب القومـيّ العربيّ - شـأن كـلِّ خطـابٍ قـوميّ - على فـكرة الوحـدة؛ وحـدة الأمّـة التي تعرّضت لعمليّـةٍ من التّجـزئـة الكـيانيّـة مـزّقـت أوصالَها البشريّـة والجغرافـيّـة وفرّخـت فيها كيانات قطـريّة صغيرة. لا مجال لأن يستـقيم أمـرُ هـذه السّـرديّـة القوميّـة إلاّ متى استقام أمـرُ فرضيّـتها المؤسِّسة (= التّجزئـة)، وقام من التّاريخ دليلٌ على وقـوع فِـعْل تلك التّجزئـة حـقًّا وشمولِـه البلادَ العربيّـةَ جميعَـها. أمّـا إِنْ تَـعَـذَّر الدّليلُ على ذلك فعلى فكـرة الوحـدة القوميّة أن تعيد تأسيس مشروعيَّـتها على مبدأ آخـر غير مبدأ إنهـاء حالة التّجـزئـة.
يتـعلّق الأمـر، هنا، بسرديّـةٍ سياسيّـة جامعة لأطياف الحركة القوميّـة العربيّـة، ومستَمدَّة من إطـارٍ مرجعيّ هو الفكر القومـيّ العربيّ في صيغـته الكلاسيـكيّة السّائـدة منذ الحـرب العالميّـة الأولى. وليس غرضـنا، هنا، وضْـعَ هذا الخطاب موضعَ تحليـلٍ ومراجعة؛ فلقد فعلنا ذلك في كتـاب سابق هـو: نـقد الخطـاب القـوميّ، إنّـما يعنينا أن نعيـد النّـظر في مسـألةٍ رئيسـة من مسائـل هـذه السّرديّـة هي التّجزئـة، على نحـوٍ نضعها معه في ميـزان التّاريخ لنَـسْـبُر مـدى وجاهـة الأخـذ بها والبناء عليها. أمّـا الذي يدعـونا إلى تخصيص الحديث فيها، دون سواها من مسائـل الخطاب القومـيّ ومفاهـيمه، فالمكانة المركزيّـة التي تحتـلّـها في خطاب التّوحيـد القـوميّ: في التّأسيس له كما في تسـويغـه.
حين تـتحـدّث هـذه السّـرديّـة عن تجزئـة، فهي لا تخترع وهْـمًا وتُحِـلُّه محـلَّ الواقـع بل تقـول حقيقـةً من حقائـق التّاريخ كانت أجـزاءٌ عـدّة من الوطـن العربيّ مسرحـًا لتجلّيـها. نعم، قـسَّمت الإمپـرياليّـات الاستعماريّـة سورية الكبـرى بعد نهاية الحـرب العالميّة الأولى، طبـقًا للاتّـفاق السّـريّ المُـبْـرَم بين سايكـس وپـيـكو عام 1916. ووقـع ما يشـبه ذلك التّـقسيم في المغـرب الأقصـى حين اقـتُطِـع منه إقـليمٌ كبير في جنـوبـه لتقوم عليه دولـة في مطـلع السّتينات بدعـمٍ فرنسـيّ. غير أنّ التّـجزئـة هـذه - وعلى صحّـة حدوثـها في تاريخنا المعاصـر- حقيـقةٌ مـوْضعـيّـة مسّتْ نتائجُها إقليميـن كبيريْـن عربيّـيْـن (هُما بلاد الشّام والمغرب الأقصى) وليست حقيـقةً شاملـةً أجزاءَ الوطـن العربـيّ برمّـته حتّى يصبح في الوُسع تركيـبُ أطـروحةٍ على ذلك المقتضى تـبرِّر مشروع التّـوحيـد القومـيّ بنقـض التّجزئـة الشّامـلة التي تعرّضـت لها الأمّـة.
والحـقُّ أنّ فكـرة وحدة الأمّـة التي تعرّضت لتجـزئةٍ وتمـزيق - على نحـوِ ما يـقدّمـها الخطاب القـوميّ العربـيّ - ليس من دليلٍ عليها في التّاريخ العربيّ الإسلاميّ، حتّـى في عـزّ الصّعود الإمبراطوريّ الذي سبق، بمئات الأعـوام، تجزئة سايكس- پـيكـو، بل يعـتريها الكـثيرُ من الارتباك وعـدمُ المطابَـقَة؛ على الأقـلّ منذ منتصف القـرن الثّاني للهجـرة، مع بدايـة قيام الدّولـة العبّاسيّـة الذي اقـترن - هـو نفسُـه - بقيام دولٍ أخـرى في الأطراف الإسلاميّـة في الفـترة الزّمنـيّـة عيـنِـها (دولة الأمويّـين في الأندلـس، ودولة الأدارسة في المغرب، والدّولة الرّستـميّـة في الجزائـر، ودولة الأغالبة في تونس). لعلّ الفـترة الوحيدة القصيرة التي كانت فيها البلادُ العربيّـة موحَّـدةً سياسيّـًا إلى حـدٍّ هي الفاصلة بين عـهد الخليفة عمر بن الخطّاب، في العـقد الثّاني وبعضِ العـقد الثّالث من القـرن الهجـريّ الأوّل وبدايـة ثلاثيـنيّـات القـرن الهجريّ الثّاني: مع سقوط الدّولـة الأمـويّـة؛ وهي فـترة قصيرة نسبيّـًا (مائة وعشرة أعـوام) لم تكن تكـفي - بمقايـيس ذلك الزّمـان - كـي تحقّـق انصهارًا سياسيًّا- اجتماعيّـًا مساوِقًا لعمليّـة التّـوحيـد الدّيـنيّ والثّـقافيّ التي أنجـزها الإسلام.
سيتفاقـم الانقسام أكـثر بـدءًا من النّـصف الثّاني من القـرن الهجـريّ الثّـالث مع بدايـة انهيـار الخلافة العبّـاسيّة واتّساع نطـاق إمبراطـوريّـات إسلاميّـة أخرى (المرابطـيّـة والموحّـديّـة في المغرب، والفاطميّـة في تونـس ومصر...)، بل سيستـفحـل إلى أبعـد حـدّ حين تبدأ الدّول السّلطانيّـة في التّوالـد (مع البويـهيّـين، والسّلاجقـة، والمماليك)، والإمارات في التّـكاثـر على نحـوٍ لم يبق معه من الوحدة إلاّ ذكراها الماضية. وحتّـى حينما زحـف العثمـانيّـون التُّـرك على البلاد العربيّـة وأقاموا خلافتهم، لم تخضع لهم مناطـق عربيّـة عـدّة (المغرب، عُـمان، بلاد نجـد والخليج، اليمن...)، بل احتفظت بكياناتها السّياسيّـة المستـقلّـة عن السّـلطنة.
حين دخل الاستعمار بجيوشـه بلادَنا العربيّـة، لم يجـد نفسه أمام كيـانٍ اجتماعـيّ- سياسيّ مـوحّـد، بـل أمام ولايات عربيّـة تابعة للدّولة العثمانيّـة أو متمـرّدة عليها (مصر محمّد عليّ والأسـرة الخديويّـة)، وأمام دول تاريخيّـة ذات تقاليـد دولتـيّـة عريقـة في الاستقلال (المغرب وسلطنة عُمان)، أو مناطق أخـرى - في الجزيرة العربيّـة خاصّـة - تـقوم فيها إمارات وسلطات محليّـة كما في نجـد...إلخ. بعبارة أخرى، دخل الاستعمار بلادًا كانت قد فـقدت - مع كـرور الزّمـن - تقاليدها الوحدويّـة وتكرّست فيها العوازل الأنثروپـولوجيّـة وحوائـل الحدود المجتمعيّـة. كانتِ البلادُ العربيّـة غداة انحلال القبضة العثمانيّـة وبداية دخول الاستعمار مجتمعاتٍ عـدّة لا مجتمعًا واحـدًا لافتقارها إلى الوحـدة السّياسيّة. لذلك كانت التّـجزئة فيها معـطًى تاريخيّـًا موروثـًا، ولم تبـدأ مع الاستعمار كما يقول الخطاب القـوميّ. أمّـا التّجزئـة الكولونياليّـة فأتت تُـفاقِـم التّجزئـة الموروثـة وتعيد تصنيع خاماتها ناقـلةً إيّـاها من حدود التّعبيـر عن نفسها اجتماعـيّـًا إلى حيث تصير تجزئـة سياسيّـة كيانيّـة، أي مُجسّـدة في دويلات جديـدة لا حصر لـها.
من البيّـن، إذن، أنّ بناء فكـرة الوحـدة العربيّـة على فرضيّـة التّجـزئـة لا يـوفّـر لمشروع التّـوحيد حاجته من المشروعيّـة المتوسِّـلة للتّاريخ. وليس معنى هـذا أنّـنا نطعن في مشروعيّـة فكـرة الوحـدة والحاجـة الحيويّـة إليها - من أجـل توفيـر أساسٍ تحتـيّ يفـتح الأفـق أمام نهـوضٍ حضاريّ للأمّـة العربيّـة - بل نحن نطعن في حُجّـيّـةِ هـذه السّرديّـة القوميّـة التي تربـط الوحـدة بفرضيّـة التّجـزئة. في المقابـل، دَعَـوْنـا - وندعـو إلى إعادة تأسيس مشروعيّـة الفكرة الوحدويّـة على قاعـدة مبدأ المصلحة: مصلحة الأمّـة في الوحـدة؛ وهـذه لا تبـنى على الماضي (الحقـيقيّ والمتَـخَـيَّـل) بل على الحاضـر والمستقبـل.