ويل للمهزوم!
في ١١ نوفمبر ٢٠١٨، راح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يذكر العالم بمآسي الحرب العالمية الأولى أمام حشد من الملوك ورؤساء الدول وكبار المسؤولين في العالم، وقد احتشدوا جميعا أمام قوس النصر في العاصمة الفرنسية باريس، بمناسبة مرور قرن على نهاية تلك المأساة، وقد تحدث الرئيس الفرنسي إلى الحضور من خلال خطاب مفعم بالمشاعر والعواطف، وقد بدا التأثر على وجوه كثير من الحضور معظمهم ممن شاركت دولهم في هذه الحرب.
تناول الرئيس الفرنسي في خطابه حجم التضحيات والخسائر التي قدمها المنتصرون والمنهزمون معا، حيث فقد العالم ما يقرب من عشرين مليونا من البشر وعشرات الملايين من الجرحى والمفقودين، فضلا عن تدمير المدن والمنجزات الحضارية التي أنجزها العالم. المتابع لهذا المشهد عبر وسائل الإعلام المختلفة يلاحظ أن الدموع قد راحت تنساب من عيون بعض الحضور، فقد كانت الكلمات مؤثرة وخصوصا وهو يتحدث عن تضحيات الفرنسيين الذين تحملوا النصيب الأكبر دفاعا عن وطنهم.
اللافت للنظر أن الرئيس الفرنسي لم يتعرض لهول المآسي التي نجمت عن الحرب العالمية الأولى، حينما استغل المنتصرون انتصاراتهم وأملوا شروطا مجحفة على المنهزمين كانت سببا مباشرا لوقوع حرب أخرى أكثر هولا ودمارا "الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩-١٩٤٥" ولم يشر من قريب أو بعيد لمآسي دولا لم يكن لها في تلك الحرب ناقة ولا جمل من قبيل العالم العربي الذي قدم مئات الألوف من القتلى والمفقودين من مشرق العالم العربي إلى مغربه، وقد وزعه المنتصرون كغنائم حرب، ولم ينسَ العرب اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور، الذي انتزع فلسطين لكي تكون وطنا تاريخيا ليهود العالم، وجميعها أخطاء هائلة، وصولا إلى مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر ١٩٥٦، وهي جراح غائرة لم تندمل بعد.
أعتقد أن الرئيس الفرنسي في هذه المناسبة، قد استغل مهارته الخطابية حينما راح يذكر العالم بتضحيات الفرنسيين دفاعا عما أسماه "العالم الحر"، حينما قال بأن فرنسا في هذه الحرب قد قدمت التضحيات الأكبر، بعد أن دفعت ألمانيا بأربعة أخماس جنودها في هجوم مباغت على فرنسا، التي اكتسحها الألمان في أسابيع قليلة.
على الرغم من استعادة الحلفاء قوتهم حينما قاوموا الزحف الألماني الذي كاد أن يجتاح كل الدول الأوروبية، إلا أن قيام الثورة البلشفية في روسيا (نوفمبر ١٩١٧) وضع الحلفاء في مأزق، فقد عقد البلاشفة هدنة مع ألمانيا لذا خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من ترددها وقررت دخول الحرب بجانب الحلفاء في الوقت الذي كان فيه الألمان يخوضون حربا ضارية مستخدمين الغواصات التي كادت أن تسيطر على كل المياه الأوروبية، مما أحدث مجاعة في بريطانيا بسبب الحصار الألماني.
كان دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب بمثابة طوق النجاة حينما وضعت كل امكاناتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية دفاعا عن الحلفاء، وأبحرت من الثغور الأمريكية الغواصات والبوارج العملاقة، لدرجة أنه في أكتوبر ١٩١٨، كان عدد الجيش الأمريكي في فرنسا يربو على مليون وسبعمائة وخمسين ألف جندي، وفي أسابيع قليلة تغيرت مجرى الأحداث، بسبب خطأ تاريخي تمثل في غزو روسيا، وأصبحت ألمانيا في موقف لا تحسد عليه، وقد أعلن الرئيس الأمريكي "ويلسون" عن المبادئ الأربعة عشر الشهيرة كأساس للسلام، وجعل المبدأ الرابع عشر بمثابة حجر الزاوية لتكوين عصبة الأمم بهدف توفير الضمانات اللازمة لتحقيق الاستقلال السياسي والسلام لكل الدول الكبرى والصغرى معا.
أحكم الأمريكان الحصار على ألمانيا في نهاية عام ١٩١٨، وراحت الدبابات الإنجليزية تهاجم بجسارة شديدة الجبهة الألمانية، وتمكنت من اختراق خطوط الألمان الحصينة في موقعة شهيرة "كمبري".
أدرك القادة الألمان أنهم خاسرون الحرب لا محالة مما اضطر الحكومة الألمانية إلى فتح قناة اتصال مع الرئيس الأمريكي، طالبة منه وضع شروط للتفاوض، وقد قبل ويلسون هذه المهمة التاريخية معلنا في ١١ نوفمبر ١٩١٨ قبول الهدنة وإيقاف الحرب.
لم يقبل الحلفاء بالتفاوض مع القادة الألمان الذين كانوا سببا في نشوب الحرب، لذا استقالوا جميعا وتخلوا عن مناصبهم، وجيء بحكومة جديدة برئاسة مستشار جديد هو "أيبرت" Ebort الذي بعث بوفدين من قبله إلى المارشال فوش، وقد أجبرهم على التوقيع على الهدنة في عربة قطاره الخاص (١١ نوفمبر ١٩١٨).
كانت شروط الهدنة مذلة ومجحفة للألمان، فقد قبلوا الانسحاب من كل الأراضي التي احتلوها عنوة، كما قبلوا بتسليم كل أسلحتهم وطائراتهم وجميع معداتهم العسكرية. وهكذا انتهت الحرب التي استمرت أربع سنوات وخمسة عشر أسبوعا، والتي شاركت فيها ثلاثون دولة وجُند لها خمسة وستون مليونا من المقاتلين، قتل منهم عشرين مليونا وجرح وأسر ما يقرب من ثلاثين مليونا، لقد سيطر الشعور بالانتقام على المنتصرين، ولم يكن باستطاعتهم التجرد من مشاعرهم الشخصية، لذا كانت الشروط المجحفة التي فرضها الحلفاء سببا كافيا لمزيد من الكراهية، ولم يتنبهوا إلى أن المنهزمين سوف يتحينون الفرصة لاستعادة كرامتهم وكرامة بلادهم، ولم يمض على نهاية الحرب أكثر من عقدين حتى نشبت الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥)، وهي الحرب التي طالت العالم برمته ودمرت أضعاف ما دمرته الحرب الأولى.
لعل التطور الهائل الذي طرأ على صناعة الأسلحة بمختلف أنواعها كان سببا كافيا لمزيد من الدمار، ولم تسلم أوطاننا العربية من تلك المآسي بل قدمت الكثير منها شهداء يتجاوزون مئات الألوف، ورغم ذلك فقد خرجنا من هذه الحرب وكل أوطاننا محتلة، وقد وجدها الحلفاء فرصة لقيام دولة إسرائيل.
إذا كان الرئيس الفرنسي ماكرون قد استغل هذه المناسبة للإعلان عن قيام ما أسماه منتدى السلام العالمي، حيث اجتمع قادة العالم في نفس اليوم لوضع سياسات جديدة تحقق السلام وتحول دون نشوب مثل هذه الحروب المدمرة، إلا أن ثمة ملحوظات تستوجب العناية، وما تزال تشكل خطرا على السلام العالمي:
أولها، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد انفردت بمصير العالم، وأن الرئيس الأمريكي وقتئذ "ترامب" لم يستجب إلى دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون، ولم يحضر الاجتماع الأول ضاربا عرض الحائط، مفضلا أن تظل الولايات المتحدة الأمريكية فوق كل القوانين والمواثيق الدولية، ولعل اندفاعه الطائش لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس يعد سببا كافيا لاستمرار الصراع العربي الإسرائيلي، وما نشاهده كل يوم من سياسات أمريكية مجحفة بحق العرب تعد دليلا على التكبر والغطرسة التي كانت سببا كافيا لكل ما آلت إليه أحوال العالم العربي، ابتداء بما حدث في العراق وسوريا وليبيا، وما تزال السياسات الأمريكية تدعم إسرائيل لكي تتوارى القضية الفلسطينية من المشهد.
ثانيها: إذا كان الرئيس الفرنسي ماكرون جادا في دعوته للسلام بعد أن دفع العالم برمته ثمنا باهظا في حربين عالميتين حصدتا ملايين البشر ودمرت اقتصاد العالم، وأتت على ما أنجزته الحضارة الإنسانية، فكان من الواجب الاعتراف بالأخطاء الكبرى التي ارتكبها الغرب والولايات المتحدة الأمريكية في حق الدول الصغرى معترفا بما ارتكبته هذه الدول من أخطاء تاريخية تستحق الاعتراف بها والعمل على حلها وفق قواعد السلام والأمن العالميين.
ثالثا: إذا كان الرئيس الفرنسي ينشد السلام والأمن في العالم فعليه أن يتحلى بالشجاعة لمواجهة ما يحدث في منطقتنا العربية من حروب ودمار، جميعها صناعة غربية وأمريكية يتحمل العالم برمته مسئولياتها كاملة، وهي قضايا كانت تستحق أن تكون على أچندة المؤتمر. أما وأن ذلك لم يحدث وليست هناك سياسات جادة لحل كل هذه الأزمات الكبرى فسيظل الأمن والسلم العالميين في خطر دائم.
ولعل من المهم التأكيد على أن منتدى السلام والأمن الذي عقد في باريس، والذي علق عليه العالم آمالا كبيرة في ذلك الوقت قد فشل حتى الآن، لأن السلام العالمي لم يتحقق بعد، وخصوصًا وأن العالم قد دخل في أتون حرب جديدة بين روسيا وأوكرانيا، راح يتشكل تحالف جديد لإعلان الحرب على روسيا بكل الوسائل، وهو ما يؤكد أننا لم نستفد من مآسي الحرب العالمية الثانية، فالسلام العالمي لا يمكن أن يتحقق إلا بالحوار والمفاوضات وتقديم تنازلات من كل الأطراف لكي يصل العالم إلي وضع جديد يسوده السلام والوئام.