وهم الصّراع المذهبيّ
المتأمل في المذاهب الإسلاميّة، كلاميّة كانت أم فقهيّة، لا يجد ذلك الاختلاف الجوهريّ الّذي ينقلها إلى دائرة الصّراع والتّنافر، فغالبها مذاهب تقليديّة استقرت لأسباب سياسيّة واجتماعيّة على مذاهب كلاميّة تحت خطّ المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث، أو فقهيّة تسعة، ثمانيّة منها تنسب إلى شخوص وهي الإباضيّة والزّيديّة والجعفريّة والحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والإسماعيليّة، وواحدة تنسب حسب مدار التّعامل مع النّصّ وهي الظّاهريّة، وما وجد من مسالك عرفانيّة أو صوفيّة فأقرب إلى السّلوك منها إلى رمزيّات الغنوصيين الموغلة في الباطنيّة والرّمزيّة والتّأويل، وإن وجدت الثّانيّة فهي قليلة جدّا كفريق من الدّروز، وهذه غالبها مسالمة وليست تبشيريّة، أو كأفراد يظهرون بين فترة وأخرى، لهم تأويلاتهم الرّمزيّة كابن عربيّ والحلّاج والبسطاميّ ونسيميّ وغيرهم، حالهم كحال بعض الفلاسفة الّذين يقابلونهم في التّأويل العقليّ، فهؤلاء أقرب إلى الأفراد منهم التّشكل الجمعيّ.
ثمّ المتأمل في المذاهب الإسلاميّة ذاتها يجدها مشتركة في أصول كلاميّة واحدة، وهي الإيمان بالله وبكتبه والنّبوّات والرّسالة والماورائيّات واليوم الآخر، فهم يشتركون في الإيمان باللّه وبنبيّه محمّد – عليه السّلام -، ويعظّمون ما أنزل إليه من كتاب، وينتظرون جميعا العالم الآخر، وما فيه من حساب وثواب وعقاب، هذه الأصول لم تخرج عن كتاب الله تعالى، الّذي يعظّمونه جميعا، ويؤمنون بما فيه، ويتلونه في صلواتهم، وما عدا ذلك من اختلافات كلاميّة فنتيجة طبيعيّة لسعة النّصّ القرآني ذاته، ويجملها الرّازيّ (ت 604 – 606هـ) بقوله: "فأمّا الّذي يعرف بالدّليل أنّه من دينه مثل كونه عالما بالعلم أو لذاته، وأنّه مرئي أو غير مرئي، وأنّه خالق أعمال العباد أم لا، فلم ينقل بالتّواتر القاطع لعذر مجيئه عليه السّلام بأحد القولين دون الثّاني، بل إنّما يعلم صحة أحد القولين وبطلان الثّاني بالاستدلال، فلا جرم لم يكن إنكاره، ولا الإقرار به داخلا في ماهيّة الإيمان، فلا يكون موجبا للكفر، والدّليل عليه أنّه لو كان ذلك جزء ماهيّة الإيمان لكان يجب على الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنّه هل يعرف الحق في تلك المسألة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمّة، ولنقل ذلك على سبيل التّواتر، فلمّا لم ينقل ذلك دل على أنّه عليه السّلام ما وقف الإيمان عليها، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجبا للكفر، ولأجل هذه القاعدة لا يكفّر أحد من هذه الأمّة، ولا نكفّر أرباب التّأويل".
كذلك يجد المتأمل أنّ المذاهب الإسلاميّة مشتركة في أصول فقهيّة واحدة، فيصلّون خمسهم في أوقات واحدة، ويستقبلون ذات القبلة، ويحجّون إليها في عامهم وبنسك واحدة، ويصومون شهرهم في العام، ويخرجون صدقات أموالهم عن طيب منهم، فلم يشذّ منهم أحد في هذا، وما عدا ذلك من اختلافات فلا تتعدّى الاختلافات الجزئيّة لأسباب روائيّة أو اجتهاديّة عقليّة، ومثله الاختلافات في أجزاء الصّلاة كما يقول الأصمّ من علماء الإباضيّة (ت 631هـ ) "وقد أجاز المسلمون – أي الإباضيّة - الصّلاة خلف من يفرد الإقامة، ومن يسر لبسم الله الرّحمن الرّحيم، وخلف من يرفع يديه في الصّلاة بالتكبير، ومن يسلّم مرتين، ولم يروا ذلك زيادة ولا نقصانا؛ لأنّهم أجمعوا على أنّه إنّما تجوز الصّلاة خلف من لا يزيد فيها ولا ينقص منها، وهذه الخصال الأربع لا نعلم أنّ أحدا من المسلمين قال فيهنّ بنقض على من صلّى خلّفه على ذلك"، ويجمل الفقيه الشّافعيّ العمانيّ المعاصر عبد العزيز العوضيّ المذاهب الإسلاميّة وإن اختلفت تسمياتها بقوله: "أمّا المسلمون فجميعهم سنّة بمذاهبهم الأربعة أشعريّتهم وسلفيّتهم وأخوانيّتهم وصوفيّتهم وشيعة وزيديّة وإباضيّة، كلّهم مسلمون موحدون، الله جلّ جلاله ربّهم، والإسلام دينهم، ومحمّد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - نبيّهم، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة".
أيضا يجد المتأمل أنّ المذاهب الإسلاميّة مشتركة في غالب الأدلّة الإجماليّة، وفي الآلة الأصوليّة والاجتهاديّة والمقاصديّة، ومشتركهم في هذا أكبر من المختلف كما يرى محمّد رشيد رضا (ت 1935م) "الأصل المتفق عليه عند الجميع، وهو كتاب الله تعالى والسّنة العمليّة الّتي كان عليها السّلف الصّالح بلا خلاف"، ويرى أنّه "لم يسلم المسلمون ممّا جرى لمن قبلهم من الأمم باختلاف التّأويل والرّوايات الآحاديّة وأهواء الرّؤساء والتّعصب للمرشدين، ونرجو أن يعودوا إلى الوفاق بالعود إلى الأصل المجمع عليه وهو الكتاب والسّنة العمليّة المتفق عليها، ويعذر بعضهم بعضا في الرّوايات القوليّة الآحاديّة".
خلاصة هذا كلّه أنّ المشترك بين المذاهب الإسلاميّة أكثر من المختلف، والانتقال من دائرة الوفاق إلى دائرة الصّراع هو انتقال من دائرة الواقع إلى دائرة الوهم، ومن يرد أن يرى حقيقة هذا فلينظر إلى الكعبة، فهم يصلّون خلف إمام واحد، ومن بقاع ومذاهب مختلفة، فلا تعرف عقائدهم، ولا تدرك مذاهبهم، وإنّما تنظر إلى وحدتهم لربّهم، والكلّ يريد الوصول إليه بما استقرّ عليه مذهبا من حيث الولادة في الغالب، فهناك لا يشغلهم الجدليّات الكلاميّة والفقهيّة والتّأريخيّة، بقدر ما يشغلهم حبّ الله الّذي وحدّهم، والطّمع لما عنده من ثواب، فكلّما زادت الخلطة كما يرى الشّيخ إبراهيم بن سعيد العبريّ (ت 1975م) قلّت النّفرة، وفي هذا يقول: "أنّه كثرت اليوم الخلطة، وخفّت النّفرة، واجتمع بعضنا ببعض، فلا يناسب ذلك الا اتباع ما عليه السّلف ممّا ذكرناه أيّ من الألفة والصّلاة خلف بعض، وجواز الصّلاة معهم، والاقتداء بأئمتهم فيها جمعة وجماعة، حيث أقاموها في أماكنهم وجوامعهم، ولا نرى الامتناع والتّخلف عنهم؛ لأنّ الصّلاة عبادة لله، والدّعاء إليها دعاء إلى الله، فيا قومنا أجيبوا داعي الله، ولا تتخلفوا فتتخالف قلوبكم".
وما ذكره الشّيخ إبراهيم العبريّ كان لسبب سهولة التّنقل، والهجرات العماليّة والسّكانيّة، وأمّا اليوم لو طال عمره؛ لأدرك أنّ العالم يعيش في قرية واحدة، فلم يعد هناك مخفيّ أو ذات خصوصيّة مذهبيّة، فأنت ترى العالم وأنت في بيتك، وكأنّ العالم اليوم مزرعة ذات أشجار متباينة، وثمار متنوّعة، وجميعها تسقى من ماء واحد، وتنبت في تربة واحدة، فكذلك المذاهب الإسلاميّة تسقى من قرآن واحد، وتتبع نبيّا واحدا، إلّا أنّ هذا الاختلاف ثمرة النّصّ نفسه، ولو شاء الله لجعلهم على صورة واحدة محكمة مفصّلة، ولكن من رحمته جعل مساحة التّأويل أوسع من الإحكام، ومساحة الإنزال الزّمكانيّ أوسع من المطلق المغلق، وما فتح الله ذلك ليعذّبهم بالتّصارع والتّنافر والاحتراب، وما جعل أحدا نائبا عنه، يحمل صكوكا لغفران مذهبه، وهلاك مذهب من خالفه، فجعل المصير بيده وحده، وإنّما على العباد البحث في الأرض وسننها، وإصلاحها وعمارتها، وإشغال العقل بالمعرفة والبحث والكشف والسّير في الأرض.
وطبيعيّ جدّا أن نجد الاختلافات التّأويليّة والتّأريخيّة بين المذاهب الإسلاميّة، لأسباب مختلفة يدركها الجميع، ارتبطت لأسباب سياسية أو روائيّة أو عقليّة أو عرفانيّة، فكان هذا التّنوّع المذهبيّ الجميل، فبقدر ما يوجد من تعصبّات تراثيّة في قصّاصات كتب التّراث؛ إلّا أنّها طبيعيّة في ظرفيّتها الزّمانيّة، فحينها كانت النّفرة أكثر من الخلطة، والسّماع عن الآخر أكثر من الاقتراب منه، وأمّا اليوم فننظر إلى المذاهب الإسلاميّة كناحية جماليّة طبيعيّة في المجتمع الإنسانيّ، فهي تعطي تعدديّة جماليّة إذا عمّق البعد الرّوحيّ والجماليّ، فهي صورة جمال الله في اختلاف خلقّه، وسنّته في الوجود القائمة على جمال التّعدّد والتّنوّع.
ومع هذا الاختلاف إلّا أنّ التّأريخ قلّ ما سجّل حروبا لأسباب مذهبيّة إسلاميّة، إلّا إذا ضيّقت بالسّياسة، فالسّياسة إذا دخلت في المذاهب ضاقت وميّزت وفرقت، كما أنّ المذاهب إذا تسيّست فسدت، فالسّياسة معنيّة بالعدل بين النّاس على اعتبار المواطنة الواحدة، بعيدا عن أديانهم ومذاهبهم، والمذاهب معنيّة بالجمال الإلهيّ، وسعة الوصول إلى رحمته ومحبّته، فما نراه في وسائل التّواصل اليوم من محاولات إشاعة المذهبيّة هو أقرب إلى الوهم، وخطورته إذا جعل الوهم واقعا، وصراع التّأريخ مطلقا، وخرجنا من سعة المواطنة إلى ضيق المذهب، وأشغلنا العقل عن حاضره، والجيل عن مستقبله، والوطن عن تقدّمه، والأمن عن استقراره!!!