وقفات مع «حياة المائة عام»
نعمة العمر المديد من المنح الجليلة، ويُعدها الكثيرون معلما بارزا في حياة البشرية، مما حدا بملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية أن ترسل رسائل تهنئة إلى الأشخاص الذين احتفلوا بعيد ميلادهم المئوي، ولكن هل يمكن أن يصبح طول العمر في المستقبل توقعا وليس استثناء؟ وهل يدرك المخططون والمفكرون ومتخذو القرار في وقتنا الحالي بعمق التحديات التي تحملها فرضيات العمر الممتد لبني البشر؟ ومدى صعوبة إدارة الالتباس الحتمي الذي سيولده هذا الوضع؟ وعلى من تقع قيادة المسؤولية في إعادة فهم مرحلة الشيخوخة الجديدة في سياق التركيبة السكانية المتغيرة؟ وهل من المناسب البدء بوضع منظور اجتماعي، وثقافي، وقيمي، مستحدث لاستيعاب وهندسة التأثيرات المستقبلية لطول العمر؟
تشير دراسات الاستشراف الديموغرافي إلى استمرار ظاهرة الزيادة المضطردة في متوسط العمر المتوقع للإنسان، تم رصد هذه الزيادة بشكل تكراري وتصاعدي على مدار الـقرنين الماضيين، وذلك بمعدل سنتين إلى ثلاث سنوات لكل عقد من الزمن، وإذا أضفنا إلى هذه الظاهرة اعتبارات أخرى مثل التطور الهائل في الرعاية الطبية، الذي نتج عنه التقدم العلمي في علاج الأمراض الشائعة في مختلف المراحل العمرية، وأدى إلى تحسن جودة، ورفاه الحياة في معظم اقتصادات دول العالم، فإنه يمكن في ظل هذه الافتراضات استشراف الاحتمالات العالية للعيش سنوات إضافية بعد بلوغ المائة عام، وهذا ليس ضربا من التكهنات، ولكنه نتاج الدراسات التحليلية التي تمكنت من وضع السيناريوهات الدقيقة لمستقبل عمر الإنسان على الأرض، فعلى سبيل المثال، تُظهر الإحصاءات بأنه لدى مواليد اليابان في عام 2007 فرصةً بنسبة أكثر من 50٪ للعيش إلى ما بعد سن ال107 أعوام، في حين يتراوح متوسط العمر المتوقع لمواليد نفس العام في أوروبا بين 103 إلى 105 أعوام، كيف امتد عمر البشر إلى أن تعدى المائة عام؟
في البدء، تعالوا نتابع كيف تغيرت حياة البشر من بعد ظهور الثورة الصناعية الأولى حتى يومنا هذا، نجد بأن الحياة اكتسبت ملامح المدنية بظهور الآلات، ودخول الصرف الصحي في التخطيط الحضري، ثم جاء العلم وحقق للبشرية أهم المنجزات التاريخية، وهي اكتشاف اللقاحات، والمضادات الحيوية، وبذلك تم القضاء على غالبية الأمراض المعدية التي حصدت أرواح الأطفال خصوصا، وبقية البشر مدةً طويلة، أما الأمراض المزمنة غير المعدية مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والحالات النفسية والعقلية فقد نالت نصيبا وافرا من الدراسة والفهم، وتمكن العلم من وضع أسس الوقاية منها بتوظيف مبادئ الصحة العامة، على سبيل المثال وتاريخيا، تُعد الحملة ضد التدخين خلال القرن الماضي من أكبر جهود الإنسانية للتوعية بمخاطر العادات والسلوكيات غير الصحية، إذ تمكن العلم أن يضع كلمته في تنظيم إعلانات التبغ، ووجه العلماء والباحثون والمبتكرون جلَّ اهتمامهم في فهم أمراض الشيخوخة، وطرق علاجها، وفي مقدمتها الزهايمر والخرف، إذن مع وجود التكنولوجيات الطبية المتقدمة، والوعي بأهمية التغذية الجيدة، وأنماط الحياة الصحية، لم يعد العيش حياة أطول، وأكثر صحة استثناءً.
وإذا نظرنا إلى الوراء، نجد بأن العمل كمفهوم ومصدر للدخل قد تطور بشكل كبير من بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى وصل إلى النهج التقليدي المتعارف عليه حاليا، والذي يقوم على ثلاثية التعليم، والتوظيف، والتقاعد، ولكن الاقتصاد العالمي يتغير بشكل كبير ومتسارع، وتبعا لذلك اختلفت ملامح سوق العمل بصورة جذرية، وتباينت أنماط المهن والوظائف، وتهيأت خيارات وفرص عمل تسنح للشخص الجمع بين أكثر من عمل، والانتقال من مؤسسة إلى أخرى، ولم يعد هناك التزام فعلي بالمراحل التقليدية الثلاثة، و قد اختصرت جائحة كوفيد-19 سنوات من البحث والتجريب عن مدى فعالية العمل عن بعد، وبذلك فإن أهم العادات المرتبطة بيوم «العمل العادي» قد تغير للأبد، لم تعد المكاتب المؤسسية هي تلك المساحات التي يذهب إليها الموظف كل صباح، ولكن اتسع تعريفها ليشمل المكاتب الافتراضية، وفرق العمل متعددة الجنسيات والأماكن الجغرافية، وقاعات الاجتماعات التي تستضيفها المواقع والتطبيقات الإلكترونية، ومع زيادة التجارة والأعمال الإلكترونية فإن الجهات الطالبة للخدمات تسعى وراء المهارات القادرة على توفير الخدمة، دون التقييد حرفيا بشهادات علمية أو تخصصية، وهذا يعني ببساطة أن الشباب بإمكانهم بدء حياتهم المهنية في أي وقت، ومن أي مكان، وبالمثل يمكن للمتقاعدين الاستمرار في المساهمة في سوق العمل، وهذا يعيدنا للسؤال نفسه: هل البشرية مهيأة للحياة والعمل في عصر امتداد العمر لسن مائة عامٍ وأكثر؟
ومع بداية الألفية الثالثة، أصبحت الدوائر الأكاديمية، والبحثية، والفكرية على أعتاب مناظرات مثيرة للاهتمام، وفي خضم هذه المناقشات، والاهتمامات العلمية ظهر كتاب البروفيسورة ليندا جراتون، والبروفيسور أندرو سكوت في عام 2016، حمل الكتاب عنوان «The 100 Year Life» وترجمتها للعربية هي «حياة المائة عام»، وقدم تحليلاً واسع النطاق عن محاكاة مستقبل العمر الممتد للإنسان، بالاعتماد بشكلٍ فريد وابتكاري على خبرة المؤلفين في الاقتصاد، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وإتاحة نظرة ثاقبة لما تحتاجه الحكومات والمؤسسات، والمجتمع للوصول إلى حياة المائة عام بتخطيط سليم، وبناء أجندة راسخة للتغيير المجتمعي الشامل، حصد الكتاب العديد من الجوائز التقديرية والفخرية، وتمت ترجمته إلى أكثر من (15) لغة، ولا تزال حركة الترجمة للغات أخرى مستمرة؛ أصبح الكتاب في قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في اليابان، وتم تحويله إلى نسخة الرسوم المتحركة للقصص المصورة، أو ما يسمى رسوم «مانگا»، واستحوذت فكرة حياة المائة عام على الاهتمام الأكاديمي، وصارت جزءًا أساسيًا من المناهج الدراسية في كلية لندن للأعمال، لكل من درجة الماجستير في إدارة الأعمال، وشهادات الدورات الموجهة للمديرين التنفيذيين، وتمت مناقشة فكرة مستقبل العمل في ضوء فرضية العمر الممتد في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، وفي مؤتمرات وفعاليات الفاينانشيال تايمز الأعمال التجارية الدولية، والمقالات التخصصية لصحيفة وول ستريت جورنال، وفي الاجتماعات الرسمية لقمة العشرين G20 في اليابان في عام 2018.
اعتبر الناقدون وقراء السياسات وعلماء المستقبل أن كتاب جراتون وسكوت إحدى الأفكار العظيمة للقرن الواحد والعشرين، فهو بجانب كونه يحمل سبقا علميا ومعرفيا في استشراف مستقبل البشرية، إلا أنه كتاب ملهم للجميع، فهو يخاطب مختلف الفئات العمرية، ومناسب للمستويات الرسمية وما دون ذلك، وهو يهم الاقتصاديين، وأرباب العمل، وصانعي السياسات، والأطباء، بقدر ما يشغل تفكير الشباب والموظفين، ورواد الأعمال، يتألف الكتاب من عشرة فصول متنوعة، تبدأ بمناقشة بيئة التوظيف، ومسارات الدخل الفردي، ومرورًا بمختلف سيناريوهات الحياة والعمل، ويختم بوضع خيارات أجندة التغيير، والكتاب نتاج عمل بحثي موسع يتناول تحليلًا دقيقًا لتأثير زيادة متوسط العمر المتوقع على ممارسات الأفراد، والشركات، والمؤسسات، والمجتمع، والتكلفة المالية والاجتماعية والثقافية لطول عمر الإنسان، وتعمق في تصوير «الحياة المحتملة»، وكيف تشكل الاتجاهات التكنولوجية والاجتماعية حياتنا الحالية والخيارات المستقبلية، وبذلك فإن مسؤولية أجندة التغيير تقع على الجميع،.
يعطى الكتاب فرصة ذهبية لكسر الانطباعات السائدة، وتحويل السردية بعيدًا عن التركيز السلبي البحت على «الشيخوخة» أو التقدم في العمر، وتصويرها كعبء اجتماعي واقتصادي وصحي، والتفكير في سيناريوهات بديلة لفرضية العمر الممتد، التي تعتبر هذه الشريحة ذات أهمية استراتيجية، وبأنها تحوي «الأصول غير الملموسة» من الخبرات والمعارف والحكمة الضرورية لحياة طويلة وملهمة ومنتجة، سيجد القارئ لكتاب جراتون وسكوت نفسه أمام مجموعة من الحقائق المذهلة التي توسع الأفق، وتدفع للتفكير في الذات بشكل مختلف، وتقييم مسارات حياتنا واختياراتنا الحالية؛ لأن كل فصل فيه يحفز إعادة التأمل في واقعنا، وكأنه يطرح على القارئ السؤال مرارا: هل ستعيش حياتك بشكل مختلف إذا كنت تتوقع بأنك ستعيش لسنوات بعد 100 عام؟
لسنا بحاجة إلى دراسات احترافية في الاقتصاد لفهم كيف تغير عالم العمل بشكلٍ كبيرٍ خلال العقود القليلة الماضية، وكيف اختلفت الوظائف المكتبية، وريادة الأعمال، وبناء القدرات والمهارات، ولا يختلف اثنان بأن النموذج الاجتماعي السابق ذا المراحل الثلاثة من التعليم والتوظيف والتقاعد لم يعد خيارًا قابلاً للاستمرار في المستقبل، وسواءً كانت فرضية العمر الممتد قابلة للحدوث، أو أنها مجرد تكهنات، يعلمنا كتاب «حياة المائة عام» أن تشكيل حياتنا بطريقة إيجابية قد أصبح أكثر أهمية مع تقدم الحضارة الإنسانية، فالسنوات تبقى رقماً إذا لم يستطع الفرد تأسيس حياته بناءً على طموحاته، وشغفه، وقيمه، والمهم هو القدرة على إيجاد المسار الصحيح مهنيًا واجتماعيًا، وتكريس كل المعطيات التكنولوجية، واستثمار المزيد من الطاقة والوقت للوصول لأهداف ذات أثر للحياة على هذه الأرض، فحياة المائة عام بمعناها الحرفي أو المجازي تقاس بالأثر وليس بالأرقام.