وقال نسوة في المدينة..
ارتبط الإنسان في فرديته، أو في مجموعه، بالقول ارتباطا موضوعيا، فعبر عن حاله، وعن حال غيره، ونصب نفسه مفتيا، ومنظرا في كل صغيرة وكبيرة، وبهذا يكون المخلوق الوحيد في هذا الكون في مثل هذه الخصائص، إذا سلمنا على أن كثيرا من مخلوقات الله هي متحدثة، وتخرج أصواتا تعبر عن مكنوناتها، ولكنها أصوات تظل حبيسة فطرتها الخاصة جدا، أما بالصورة التي عليها الإنسان في شأن القول؛ فهذا أمر خاص به فقط، ولذلك سنت تشاريع وقوانين؛ تنظم علاقات القول بين الأفراد، فليس كل قول هو متاح؛ يأخذ الفرد فيه أريحيته الكاملة، وليس كل قول يصلح لأي مجلس، وليس كل قول يمكن أن يأخذ فيه الطرفان (الرجل/ المرأة) مساحتهما الآمنة في تعاطيه، وليس كل قول يمكن أن يكون متاحا للعامة، وليس كل قول يمكن أن يتحرر من الجدران الأربعة، وليس كل قول يناسب كل المقامات، وعبارة "لكل مقام مقال" لم تأت من فراغ، ولذلك كان التشديد قوياً وصارماً في شأن الأقوال "وهل يكبُّ النَّاسَ على وجوههم في النار؛ إلا حصائدُ ألسنتهم" وفي التنظيم الحديث لمساحة تحرر القول وضعت الكثير من المحددات لهذا التحرر، فيما يعرف بـ (تصنيف الوثائق) ومن درجات هذا التصنيف ـ من المهم إلى الأهم ـ هي: مكتوم؛ محدود؛ سري؛ سري للغاية، ولكل درجة من درجات هذا التصنيف محددات، تعكس تعريفاتها مسؤوليات كبيرة وجسيمة على حامل المعلومة، في حالة إفشائها، بدءا من ما يخص الفرد العام في الدولة، وصولا إلى رأس الهرم، مرورا بكل ما من شأنه أن يمس بهيبة الدولة، وأمنها الوطني، وحريات الأشخاص، وأسرارهم الخاصة، والعائلية، ومجموع الأسرار المتعلقة بهياكل الدولة، ومؤسساتها المختلفة، هذا فيما يخص الصورة العامة؛ بمعنى أن المسؤولية القولية؛ وفق هذا التصنيف، مؤطرة بقوانين، وأنظمة لا يمكن تجاوزها، ولو في حدود ضيقة جدا، لما يترتب على ذلك من مخاطرة جمة تتجاوز مجموعة المحاذير الشخصية القائمة بين أفراد المجتمع الواحد فقط، وهي المحاذير التي قد لا يستشعرها الإنسان البسيط، ولذا كان لابد أن تؤطر وفق هذا التصنيف.
يحل مفهوم الـ "تشهير" كواحدة من معضلات العلاقات القائمة بين الأفراد، لما في ذلك من تداعيات خطيرة؛ ليس فقط على مستوى العلاقات القائمة بين الفرد والفرد، بل يتجاوز ذلك إلى سمعة الأسرة، أو القبيلة، وفعل التشهير لن يكون ممارسة ميكانيكية، بقدر ما هو ممارسة قولية؛ حيث تنقل؛ عبر وسيلة الكلمة؛ صور مغايرة للحقيقة، أو قد تكون الحقيقة نفسها، ولكن إعلانها للملأ فيه إساءة للسمعة، خاصة عندما يكون من ارتكب عملا مخلا بالآداب، أو عملا يعطي انطباعا لدى العامة بأن هذه الأسرة أو تلك لا يتوقع من أحد أفرادها أن يقوم بالفعل السيء، ولذلك فهناك سياسة عدم نشر المحاكمات – على سبيل المثال – مراعاة لهذا الجانب، فمن يقع عليه حكما مغلظا انعكاسا للجرم الذي ارتكبه في حق الغير، يرى؛ من وجهة نظر اجتماعية؛ أن عليه أن يتحمل وزره بنفسه، فما ذنب أسرته الصغيرة لأن تكتوي هي الأخرى بمجموعة من التداعيات المجتمعية التي سوف يحملها عليها المجتمع المحيط، فألسنة الناس لا ترحم؛ كما يقال؛ وبالتالي يرجح الشارع "القانون" عدم نشر الإحكام على الملأ ويكتفي بنطق الحكم في إطار ضيق يجمع مرتكب الجريمة، والأقرب الأقرب من أفراد أسرته؛ فشيوع الحكم ليس من مصلحة الأسرة، ولا يغير في مسار أخلاق هذا الشخص الذي وقع عليه، لأن الفعل الجرمي المرتكب أصبح واقعا، وإن كانت هناك وجهات نظر ترى أن في النشر رادعا لآخرين قد يذهبون إلى ما ذهب إليه مرتكب جريمة ما، وهذه مسألة نسبية، فعازم مرتكب الجريمة لن يكون في حالة يسترجع فيها أحكاما صدرت في حق آخرين، إذا كان هو لم يستحضر أهمية أسرته وأطفاله، فهل يستحضر أحكاما في من سبقوه؟
يحضر مصطلح "بين النصيحة والفضيحة" كأحد الأدوات المهمة لقياس مستوى البناءات الوجدانية، أو الإساءات المتبادلة بين أفراد المجتمع الواحد، فالنصيحة فعل إنساني رائع جدا، ولكل يسعى إليه، ويتمناه، ويتقبله بصدر رحب، وبارتياح واسع، وينظر إلى صاحب النصيحة على أنه المؤازر والداعم، والعضد الذي لا غنى عنه؛ وكما جاء في تثمين هذا الفعل الدعاء للطرف الآخر: "رحم الله امرئا أهدى إلي عيوبي" وقيل أيضا: "انصر أخاك ظالما أو مظلوم" والمعنى واضح، ومع ذلك فهذا القبول يتوقف على من هو الناصح، فليس كل ناصح أمين، فشرط الود مهم "ترى فيه ودادا صادقا" بينما تأتي الفضيحة ومطيتها الكلمة أيضا على النقيض من ذلك، وكما يلاحظ في كل هذه التوليفة من الحكم والمواعظ، تحمل عنوانا واحدا وهو القول، وإن قرن بالفعل، فلا يزال القول هو المتصدر على مشهد كل العلاقات في تموضوعاتها المختلفة، وبالتالي فأسوأ ما في هذا القول هو الفضيحة؛ كما هي معلوم بالضرورة؛ وهي المتضادة عرفا وخلقا وسلوكا مع النصيحة، والفاصل بينهما خيط دقيق، ليس من اليسير المحافظة عليه بالقدرة الكاملة على ترجيح كفة النصيحة على الفضيحة، كما هو الفاصل بين الماء واليابسة.
ينظر إلى النقد على أنه مساحة معرفية؛ قبل كل شيء؛ ومعنى هذا إن لم تتحقق هذه المساحة، أو المخزون المعرفي عند فرد من الأفراد لموضوع هو موضوع نقد أو مداخلة فيه، فذلك يعنى؛ أولا: أن ما سوف يكون هو تسطيح للمعرفة "قول مهذور" أو تنظير ليس له قيمة معرفية، وثانيا: أن صاحبه يسيء إلى الطرف الآخر بصورة مباشرة، وهي إساءة بالكلمة؛ سواء يدرك ذلك، أو لم يدرك، وبالتالي، فالعرف المعرفي يقتضي أن لا يزج الشخص نفسه في كل صغيرة وكبيرة في الموضوعات المختلفة، وإلا سوف يسقط نفسه من قائمة العارفين، وفي المقابل؛ ينظر إلى أقواله كنوع من الهذيان الذي ليس له قيمة، ويقيم ذات الفعل في حالة تكراره، على أنه "معيبة" سلوكية، وقد ينزله الآخرون منزلة وضيعة، وينظر إليه على أنه إنسان ثقيل ومهذار "ثرثار" ولا يوثق في قوله، وقد ترتقي هذه النظرة على أنه شخص "نرجسي" أكثر من اللازم، وفي المقابل يعاب على الشخص مالك المعرفة في عدم مشاركته في القضايا التي تحتاج إلى نقاش ذوي المعرفة والخبرة، لأن في ذلك حرمان من حقوق المجتمع على الفرد صاحب المعرفة، بل يحمل تبعات الإخفاقات التي تحدث في حالة عدم مشاركته برأيه، وفي الحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة؟" – وفق المصدر – والكتمان هنا هو نوع من القول، كما هو الافصاح أيضا نوع من القول، والحقائق العلمية وغيرها هي نقد مباشر لكل ما هو حقيقي، والناس؛ في غالبهم؛ لا يزعجهم النقد المبني على الأدلة والحقائق العلمية، وإنما يزعجهم من يتولى هذا الجانب وهو لا يدري ما يقول، وقد يفعل ما لا يعقل، وهذه من المزالق التي يقع فيها كثير من الناس، واليوم غيره الأمس، حيث انتشار المساحة المعرفية على أوسع نطاق، فالمعرفة متاحة للجميع، وبالتالي فهذا الجمع المعرفي ليس من اليسير اختراقه بتنظيرات غير مبنية على حقائق، أو أدلة منطقية؛ إن لم تكن قطعية، وهذا في الموضوعات العامة، فما بالك في موضوعات الدين، والأحكام الشرعية التي لا تقبل المفاضلة بين خيارين.
أختم هنا بالمقاربة المعرفية؛ أكثر منها موضوعية؛ ما بين العنوان (وقال نسوة في المدينة..) وفكرة الموضوع، فالعنوان جزء من آية كريمة موجودة في سورة يوسف؛ عليه السلام؛ والقصة معروفة، والمقاربة هنا هي الكلمة المنقولة؛ وتأثيرها على المتلقي لخبر القصة، وكيف أن هذه الكلمة تتيح الفرص الكثيرة للتأويل، والتفسير، والتعليل، متجاوزا في ذلك مجموعة الحقائق، والتي قد تكون مغايرة تماما لما يتداول وينقل للمتلقي، حيث يكيف المتلقي بعد ذلك الأحداث وفق رؤيته، ووفق تفكيره، ووفق ما يختزنه من معرفة، سواء أكانت هذه المعرفة متعلقة بذات القصة، أو أنها لقصص أخرى مشابهة، فاستوصوا بالكلمة خيرا.