وعد الاقتصاديون الليبراليون جيلنا بالحرية وخذلونا
جين طبيبة شابة تعمل للعديد من النوبات الإضافية عسى أن تتمكن من تغطيات نفقاتها. منهكة بعد الوباء أشد الإنهاك، تعاني من الصحة الجسدية والذهنية، تود الحصول على إجازة غير مدفوعة الأجر، لكنها لا تملك رفاهية القيام بذلك. في الشهر الماضي، رفع المالك إيجارها ثم أرسل إليها إنذارا بالإخلاء حين قالت إنها لا تحتمل الزيادة، وعليها الآن أن تغير سكنها للمرة الرابعة في غضون ثلاثة أعوام، وها هي تجد نفسها في سوق العقارات مرة أخرى وقد ارتفعت الإيجارات في كل مكان.
تقول لي إنها تشعر بوقوعها في شرك. شرك وظيفتها، وتضاؤل خيارات السكن وضيق وقتها الدائم بسبب الموازنة بين ساعات العمل الطويلة وضرورات البحث عن منزل. وما من مساحة للاختلاط الاجتماعي أو الراحة، لا يسمح الوقت إلا بنوم خاطف تستيقظ منه لترجع إلى العمل، والبحث عن أماكن تعيش فيها وكلها تقريبا خارج نطاق قدرتها، وإعادة النظر في أرقام حسابها عسى أن تظهر مدخرات منسية ظهورا سحريا.
من وراء الإضرابات، وأرقام التضخم، والحديث عن القرارات العصيبة التي يتحتم على الساسة اتخاذها، ثمة بشر واقعون في الشرك، تتضاءل خياراتهم طيلة الوقت. ثمة بشر في علاقات سيئة ولا يستطيعون الانفكاك عنها بسبب ارتفاع الإيجارات والرهونات العقارية ارتفاعا لم يعد يمكنه معه أن يسكن شخص بمفرده. ثمة بشر يحلمون بإنجاب طفل، أو إنجاب طفل آخر، لكنهم لا يملكون ثمن رعايته، أو الذين يودون الرجوع إلى العمل بعد إنجابه لكن لا سبيل إلى هذا. ثمة بشر في وظائف سيئة لا توفر لهم الأمن والرعاية ولا يستطيعون تركها والبحث عن بدائل لأنهم لا يملكون مدخرات تقيهم ارتفاع التكاليف، والنتيجة النهائية أزمة لا في الاقتصاد فقط، وإنما هي أزمة حرية.
وفي ظل تلك الأزمة، يذوي طموح ليبرالي كامل، إننا نتكلم عن الليبرالية بعبارات مجردة جليلة، من قبيل القلب النبيل للنظام السياسي الأمثل الذي يدعم حقوق الإنسان وسيادة القانون والحريات المدنية والحرية الشخصية ويقي ذلك كله من جمود العقائد الدينية ومن التحيّزات، ونتمنى ذلك للآخرين، بل نأخذ على عاتقنا أحيانا أن نوفر لهم ذلك على فوهات البنادق، مبشرين بهذا النظام ذي المعايير الدقيقة الذي يدير العلاقة بين المواطنين وبين السلطة ولا يتحول أبدا إلى القمع أو الانتهاك.
لكن حينما تصبح الترتيبات الاقتصادية ذاتها قمعية ومنتهكة، يمكن لليبرالية السياسية أن تتعايش مع دولة لا ليبرالية بل دولة عبودية، وأن تكون قناعا لها. في خضم التحديات الشخصية، تبدو المثل السياسية الجليلة نائية ومنقطعة الصلة بالعالم. فليس لدى جين وأمثالها من الوقت أو الطاقة إلا ما يكفي للانتباه إلى قوى اقتصادية قمعية خفية لا بد من التغلب عليها وكأنها بعض من حقائق الطبيعة. والنتيجة هي نوع من الاستبداد الشامل الذي تملى علينا فيه الخيارات الشخصية إملاء من قبل قوى لم يكن لأحدنا رأي في تشكيلها وليس لدى أحد منا سبيل إلى التغلب عليها.
يمكنكم أن تسمعوا لغة هذه الدكتاتورية الاقتصادية ومنطقها في كل مكان. فتوني بلير يقول لنا إنه في ظل شعب يشيخ، وأزمة مناخية، وارتفاع فوائد الدين والتناقص المستمر في قدرة قوة العمل على نيل خدمات من قبيل الإسكان والرعاية الصحية بعيدا عن القطاع العام، ينبغي أن نتهيأ لعدم انتظار هيئة الصحة الوطنية بل أن نلجأ في الأمور البسيطة إلى مقدمي الرعاية الصحية في القطاع الخاص، ويجب أن نتهيأ في نهاية المطاف إلى «تقليل الضرائب وتقليل الإنفاق».
ينصب تركيز كير ستارمر [زعيم حزب العمل] وراشيل ريفز [وزيرة خزانة الظل في حزب العمل] على «النمو» و«المشاريع»، متراجعين عن خطط رفع ضريبة الدخل على ذوي الدخول العليا، ورافضين فرض ضريبة أرباح رأس المال، فيدفع من يأتي دخلهم من أوعية الأرباح أقل مما يدفع من يأتي دخلهم من العمل. باتت «القرارات العصيبة» شعارا مكرورا لدى ستارمر، كأنما لإبراز الصعوبة، لا إبرازا لما قد تحققه تلك القرارات.
لكنه للإنصاف شعار دقيق للحالة التي يعانيها الكثيرون، إذ عندما تكون الأمور عصيبة، فهي كذلك. لأنه بين أولئك الذين لا تصعب عليهم الأمور، تم تحقيق قدر كاف من رأس المال السياسي والإعلامي والاقتصادي لرعاية تقشف السياسيين، وتمكينه من الظهور بمظهر قول الحقيقة الواقعية. ويبدو لي أن هذا ليس بالخيار السياسي وحسب، لكنه تراجع عن صفقة تاريخية أبرمت وسط اضطرابات هائلة شهدها عصر التنوير والثورة الصناعية وثورة إنجلترا والولايات المتحدة وأوروبا.
كانت المقايضة هي أن نخسر الدعم والعزاء التقليديين اللذين كنا نجدهما في القيم الريفية والعائلات الكبيرة، على أن نتحرر من تحيزاتها وأبويتها، وما يرتبط بهما من استغلالات اقتصادية وسياسية في النظام الهيراركي المائل إلى منفعة ملاك الأراضي، وملاك العقارات، والمتشبعين بالسلطة بسبب موقع ميلادهم في تلك الهيراركية. نعم، سنكون أكثر رخاء، ولكن الأهم من ذلك أننا سنكون أحرارا في اختيار طريقتنا في الحياة. ولقد كتب جون ستيوارت ميل أن «الحرية الوحيدة الجديرة بهذه التسمية هي حريتنا في البحث عما هو خير لنا، وبطريقتنا، ما دمنا لا نسعى إلى حرمان الآخرين من حرياتهم، أو نعوق محاولاتهم لنيلها».
لكن «خيرنا» هذا بات متزايد التضاؤل بالنسبة لمن يقدرون عليه، من يستطيعون شراء حرية أن يحبوا، أو يرحلوا، أو يلهوا، أو حق الانغماس في عمل إبداعي تعبيري. والبقية عالقون في منتصف الطريق بين العالمين القديم والجديد.
بحرمانهم من دعم العائلة والمجتمع والتقارب، بات الناس محرومين من شبكة الأمان الاجتماعي التي كان يفترض أن تحل محلها، مرغمين بصورة متزايدة على اقتطاع تمويلات لرعاية الأطفال، ودعم الأبناء غير المتزوجين والآباء المسنين مع دفعهم الضرائب أو القلق على مصائرهم في سوق الإسكان الدموي ونظام الرعاية ذي التمويل القليل إلى حد الفضائحية، وأي شيء من شأنه أن يخل بهذا التوازن الهش لا يمكن النظر فيه، وهكذا تزداد القيود ضيقا في أيدي شركاء العلاقات، وأصحاب الأعمال، والترتيبات المنزلية المختلفة.
لقد نشأت في العالم القديم ورأيت قصوره، وضقت به، وتلهفت إلى شيء من الاستقلال الذاتي الفردي. أمي كان لديها أربعة أبناء، عملت طوال سنوات إنجابها لهم معلمة في مدرسة، ولم تكن تتمكن من الرجوع إلى العمل، إلا لأنه مع إنجاب كل طفل كان عضو جديد من العائلة ينتقل للسكنى عندنا، أو يرجع إلى السكنى عندنا، لتقديم المساعدة. كان أولئك ينضمون إلى آخرين يقيمون معنا أصلا بين الحين والآخر على مدار السنين كلما احتاجوا إلى سكن.
كان أبواي بعيدين، لكنهما كانا يبدوان بصفة عامة شخصين قانعين، وهما إما في العمل، أو غائبين وسط أقارب، كانا دائمي الاستمتاع بوجودهم، ولا يجدون غضاضة في إطعامهم والتنظيف لهم بعد جلسات الثرثرة والضحك والنميمة. وكان ثمن تلك التيسيرات المجتمعية المتبادلة يدفع بطرق أخرى ـ افتقار شنيع للخصوصية والفضاء الشخصي إحساسا أن حياة الجميع، بأخص تفاصيلها وأكثرها حميمية، هي موضع آراء الآخرين ورقابتهم. كان «قفصا ذهبيا» على حد وصفه في الأدب المشرقي. وبنظرة متأخرة، وقد بلغت مرحلة الرشد والأمومة، وعرفت كليهما في العالم الجديد، يمكنني أن أرى أن الأقفاص الذهبية تأتي في أشكال كثيرة. فالحريات السياسية معادن نفيسة، ولكنها حينما تكون مصحوبة بقيود اقتصادية، فما هي إلا إطار براق.