وسائل التواصل الاجتماعي في زمن الحرب الصهيونية على فلسطين
تخلق وسائل التواصل الاجتماعي نوعا فريدا من الرقابة الشعبية على الاختلافات الفكرية، ينتج عن ذلك بالضرورة حصر التوجهات الفكرية في أطر ضيقة تفرضها قوة العقل الجمعي للمجتمعات الحديثة؛ ذلك لأن المتلقي الفاعل في وسائل التواصل الاجتماعي -سواء كانت مشاركته بهويته الحقيقية أم بمعرفات وهمية ورمزية- يبحث عن رأي يتطابق مع واقعه الاجتماعي والسياسي والثقافي بحيث لا يتجرأ أن يخرج على المعطيات المتفق عليها في رأي الجماعة الذي يمثل الأغلبية من أفراد بيئته. إلا أن هذا السلوك المعرفي -بغض النظر عن أبعاده الإيجابية- يمكن أيضا أن يؤدي إلى شكل من أشكال الصمت السلبي أو الاعتزال الثقافي بحيث يلجأ الفرد في الحديث عن توجهاته الفكرية إلى دائرة مغلقة من النخبة المثقفة بعيدا عن الرأي العام في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد ينتج عن ذلك غياب القدرة على التعبير عن القناعات الفردية في وسائل التواصل سواء كان ذلك ناشئا عن خوف من ردود الأفعال السلبية أم رغبة في التعالي الفكري عن العامة، «ويتعزز هذا القلق من خلال البيانات التجريبية التي تشير إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تديم ظاهرة دوامة الصمت التي تؤدي إلى القمع السلبي لوجهات النظر المتباينة بشأن المسائل السياسية أو المدنية ذات الأهمية».
لكن الأمر يتعدى إلى ما هو أقسى من ذلك عندما تتبنّى بعض منصات وسائل التواصل الاجتماعي ممارسة قمعية تتعمد كبت الآراء البديهية بالضرورة والتي تمثل جوهر الإنسانية من التعاطف والوقوف مع المظلوم ومقاومة المعتدي، هذه التوجهات الفطرية التي تقاوم سطوة الإعلام الموجه في تزييف الحقائق وغض الطرف عن الانتهاكات المأساوية التي تُمَارَسُ على شعب أهلكته أعتى أشكال الظلم وأعني بذلك الشعب الفلسطيني الذي كان ولا يزال يقاوم غطرسة الاحتلال الإسرائيلي منذ ما يزيد على 75 سنة، يمثل الواقع إذن صراعا في وسائل التواصل الاجتماعي بين المستخدم الذي يميل فطريا مع حقوق الإنسان والأخلاقيات البديهية التي تعمقت إنسانيا ودينيا وقوميا وبين مؤسس منصة التواصل الاجتماعي المتحيز في رسمه لسياسات وسائل التواصل إلى معايير مزدوجة أو سياسات رأسمالية تسلطها عليه أيديولوجيات متطرفة تقف مع الاحتلال الصهيوني في مطلق أفعاله المنتهكة لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني.
وإذا كان واقع وسائل التواصل الاجتماعي يفرض على المستخدم خلق شخصية افتراضية تتجه نحو الكتابة السطحية أو الهزلية الهادفة إلى جذب العدد الأكبر من المتابعين، فإن هذا الواقع يؤدي حتميا إلى تسطيح الثقافة أو معاداتها ومن ثم تصير الكتابة التي تعبر عن حقوق الشعب المظلوم -الفلسطيني نموذجا- أمرا لا يجذب اهتمام المتابعين أو توجها مستهجنا يستدعي الاعتذار إذا كان هذا التعبير قادما من الصفحات المُمَوَّلةِ ماديا أو الموجَّهَةِ فكريا في المجتمعات الغربية على نحو خاص؛ ذلك لأن معايير وسائل التواصل الاجتماعي «تميل إلى تفضيل الإيجاز والتأثير الفوري على الجوهر والعمق في الاتصال كما يشير فالور إلى أن هذا الشيء لا يبشر بالخير خصوصا فيما يتعلق بزراعة تلك الفضائل الضرورية لازدهار المجال العام»، وبهذا فإن قول الحقيقة الخالصة في وسائل التواصل الاجتماعي بنوع من الكتابة العميقة والجادة قد يكون مآله الرفض الاجتماعي في المجتمعات الموجهة بالرأسمالية التي فرضتها أساسيات الصهيونية، لكن الفرد الفاعل في منصات وسائل التواصل اليوم كمراقب للأحداث اليومية فرض رأيه الإنساني في ما يتعلق بالحرب الإسرائيلية على غزة بحضور كثيف على وسائل التواصل الاجتماعي فكان هذا الحضور أشبه بثورة معلوماتية مضادة لمؤسسي هذه المنصات في هدفهم المنشود من وراء تأسيسها على الرغم من ممارسات التضييق على الصفحات وحذفها وتهديد أصحابها وإنذارهم، فإذا كانت «شبكات التواصل الاجتماعي توفر فرجة خاصة عن القطيعة مع الثقافة» بتعبير روبير ريديكير، فإنه بوسعنا القول إن مأساة غزة تقاوم أيضا في وسائل التواصل الاجتماعي من أجل انتصار أخلاق الإنسان وفرض الرسوخ الثقافي كأداة مقاومة أو ثورة معلوماتية على الرأسمالية المُرَوِّجَة للمعرفة السطحية والمغلوطة والمُوَجَّهَة.
في الوقت الراهن لم نعد نتساءل عن المثال الذي طرحه باول فيريليو الذي يهدف من خلاله إلى توضيح حجم الهوة بين الواقع الحقيقي على الأرض والافتراضي على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ضرب لنا مثلا «بغزو العراق واحتلاله في عام 2003.. والنقاش الحاد حول واقع الوضع هناك بالنسبة لكثير من الذين تابعوا هذا الاحتلال الذي كان إحساسا قويا بالاختلال بين ما تم نقله بمختلف الطرق من خلال بث وسائل الإعلام والشعور بأن الواقع على الأرض قد يكون غير النسخ الرسمية للواقع المعطى» وبمعنى آخر تحميل الواقع الحقيقي لأثقال سياسية وأحمال تضليلية تغطي الحقيقة بغشاوة القوة الإعلامية حيث يجهل المتابع حقيقة ما يحدث على أرض الواقع، وبالرغم من استمرارية الإعلام الممول من الجهات التي ترسم أجندة سياسية شخصية قد تفضي بها إلى شرعنة انتهاك الحقوق البسيطة المتفق عليها إلا أن الواقع قد تبدل على نحو مغاير من خلال استحضار الصورة الحية في صفحات فردية تنشد الحقيقة البديهية لمتابعين يمثلون الرأي الحر الذي ما زال ينتهج الفطرة الحقيقية تجاه الإنسان من شتى جهات العالم.
وإذا كانت «شبكات التواصل الاجتماعي شاهدة على هزيمة الحضارة.. وتفكك كل ما قام الإنسان بنسجه.. وهي انتصار للفوضى» على حد وصف ريديكير فإن الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي اليوم على فلسطين قد خلخلت هذا التصور ولو بصورة نسبية من خلال انتصار الحق الفلسطيني إعلاميا في وسائل التواصل الاجتماعي بما لا يدع مجالا للشك، فالمقاطع الفورية والبثوث المباشرة الناقلة للجرائم الصهيونية بالزمان والمكان الفلسطيني واضحة في تبيان الوحشية الصهيونية ونقل حقيقة الاحتلال على أرض فلسطين واضطهاد وتهجير الشعب الفلسطيني الأعزل، لكن تبقى حقيقة واحدة تتمثل في اعتبارنا شهودا حاضرين على وجه الحقيقة المشاهدة أمام هذه الفظائع التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في غزة بعجز فعلي عن القدرة على إيقافها من قبلنا أو من قبل العالم، فإذن هي حقا شهادة على هزيمة الحضارة وانتصار الفوضى على المستوى الإنساني من منظور آخر.
عزان المعولي كاتب عماني