واقع البحث العلمي ومآلاته «2-2»

02 مارس 2024
02 مارس 2024

أكتب هذا الجزء ليكون تتِمَّة للجزء الأول في المقال السابق الذي أسعى بواسطته إلى طرح الرأي الساعي إلى التطوير والتحسين دون التقليل من الجهود المبذولة، وسبق أنْ ذكرت أنّ مسؤولية هذا الملف لا يمكن أن تتحملها جهة واحدة بل تقع المسؤولية على الجميع بمَنْ فيهم الباحثون الذين يعملون على تحقيق أهداف المشروعات البحثية وتحويلها إلى منتجات واقعية ومحركات اقتصادية. سُقت في المقال السابق بعضا من الإحصائيات التي وثقتها مراكز دولية متخصصة، وكانت المقارنة بين بعض الدول العربية بما فيها سلطنة عُمان مع الكيان الصهيوني لشدِّ الانتباه إلى مكامن القوة والضعف التي يمكن أن يُفهم بواسطتها خريطة التطوير دون أيّ قصد للتقليل من شأن دولة أو جهة وجهودها المبذولة؛ فالمُحب لوطنه الأم وأوطان بني جلدته -من العرب- سيكون خيرَ موجهٍ لكل ما يصب في المنفعة العامة. يتبين عبر ما عرضته من إحصائيات في المقال السابق أن لب مشكلة البحث العلمي تكمن في ضعف الدعم المالي الذي أمكن للقارئ استيضاح معدلاته بواقع ما تنفقه كل دولة من نسبة إجمالي الناتج المحلي، وهذا ما نؤكد عليه إلا أنه لا يكون العامل الوحيد الذي يعتمد عليه البحث العلمي؛ فثمّة عوامل أخرى تؤخذ بالحسبان مثل الاستراتيجيات الوطنية للبحث العلمي، وقوة التفاعل بين القطاعات الحكومية والقطاعات الخاصة مع المؤسسات التعليمية ومشاركتها في التنمية المعرفية والاقتصادية، ولا يمكن كذلك أن نهمل دور الباحث في هذه البَابَة.

هل يجدي مضاعفة الإنفاق الحكومي على البحث العلمي ومشروعاته؟ يمكن لأي متابع لشأن البحث العلمي ومخرجاته في دول العالم أن يلحظ أنّ الدول التي تعتمد نسبة مالية عالية من الإنفاق للبحث العلمي أكثر انتعاشا اقتصاديا بسبب التفوق في جانب الابتكار والصناعة إلا أن هذا لا يمكن أن يكون معيارا مطلقا دون تحقق مجموعة من الشروط التي من دونها ستعدّ هذه المخصصات المالية هدرًا لا يُحرّك العملية المعرفية والاقتصادية ولا يزيد فيها شيئًا، ومن هذه الشروط التي ينبغي أن ترافق تدفق السريان المالي للبحث العلمي وجود استراتيجية واضحة محددة المعالم مرتبطة بأهداف وطنية شاملة تراعي عدة جوانب منها الجانب الصناعي والصحي والتعليمي والاقتصادي بشكل عام. كنت وما أزال أحد المستفيدين من برامج الدعم الوطنية للبحوث التي تمّولها الحكومة، ولا أنكر الجهود التي يوليها الفريق المتابع لمجريات هذه البحوث ومتطلباتها منها الدعم الفني -بجانب الدعم المالي- الميسّر عبر المنصات الإلكترونية، واللقاءات مع الباحثين والاستماع إليهم ومعرفة احتياجاتهم والتحديات التي تواجههم. لا ينبغي لهذه الجهود التي تعكس الإخلاص والتفاني في العمل أن تتقهقر أمام مربكات تضعضع المخرجات المرجّوة؛ إذ تقرّ استراتيجيات البحث العلمي الحديثة ضرورة ضمان تحويل أي مشروع بحث علمي إلى ابتكار ومشروع ذي مردود مادي يسهم إمّا في النمو الاقتصادي عبر مشروعات صناعية أو النمو التعليمي والصحي عبر مشروعات إنسانية تخدم النظام التعليمي والصحي، وهذا ما نراه متحققا في بعض المشروعات ومفقودا في بعضها الآخر، ولتجاوز هذا التحدي نحتاج إلى مراجعة شاملة لمستشعرات البحث العلمي التي أريد بها مؤشرات الأداء الرئيسة «KPI» التي تكون معيارا لقياس أهداف البحث ومدى تحققها، وأهم ما ينبغي وجوده مع هذه الأهداف وجود القيمة الاقتصادية المضافة، وأن تكون بارزة في جميع مقترحات البحث وآلية تنفيذها، وهذا موجود في بعض البرامج التي يشترك القطاع الخاص في تمويلها بوجود الدعم المالي والإداري من القطاع الحكومي، وأثبتت كثير من هذه البحوث التي يشترك القطاع الخاص والقطاع الحكومي في دعمها وتمويلها نجاحا تُرجم إلى مخرجات ترفد الجانب الصناعي والاقتصادي عموما دون التقليل من كفاءة برامج الدعم الحكومية الخالصة للباحثين في المؤسسات الجامعية لفئات الأكاديميين والطلاب التي ساهمت في رفد البحث العلمي عبر تمويل تأسيس المختبرات والنشاطات البحثية المتعددة مما تمهّد بشكل جليٍّ في تنمية العقول الوطنية الساعية إلى ترجمة قدراتها المعرفية إلى مشروعات وطنية تصب مصالحها في خدمة قطاعات تخدم المجتمع والاقتصاد، ويعتمد هذا النوع من البرامج بشكل كبير على الإنفاق الحكومي الذي هو بحاجة إلى خطط استثمارية كبيرة تخدم الإنسان واقتصاده، وبحاجة إلى تجاوز المألوف والانتقال إلى المشروعات الابتكارية المرتبطة بالمردود الاقتصادي عبر ارتباط مباشر بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة الناشئة التي تعد عماد اقتصادات الدول وحاضناتها الواعدة.

يقودنا هذا المسار المذكور آنفا إلى إعادة فهم جدوى مضاعفة الإنفاق الحكومي -المحسوب من إجمالي الناتج المحلي- للبحث العلمي؛ فنرى وجوده ضرورة شرط معرفة مَصاب سريان هذا الإنفاق المالي وتحديد أهدافه الاقتصادية التي تخدم الرؤية الوطنية وتسهم في التنمية بدلَ أن تركن مخرجاتُ هذه البحوث في أوراق النشر العالمية ومكتبات الجامعات أو في شكل مختبرات معطّلة -بعد اكتمال البحث- دون أيّ ترجمة معرفية ومجتمعية واقتصادية؛ فلا بد من تحديد المشتركات بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص والقطاع الأكاديمي التي إن اتحدت جهودها معا فإن نتائج البحث العلمي أكثر توجها إلى رفد النظام الاقتصادي، وهذا ما أُثبتَ نجاحه عبر ما سقناه من أمثلة تخص بعض برامج دعم البحث العلمي في سلطنة عُمان المرتبطة بمشروعات اقتصادية واضحة؛ فوجود القطاع الخاص شريكا مع القطاع الحكومي -في الدعم المالي للبحث العلمي ومتابعة آلية التنفيذ التي يعمل عليها القطاع الأكاديمي وأفراده الباحثون وقياس سير هذه البحوث بواسطة مؤشرات الأداء الرئيسة- سيحدد بُوصلة البحث العلمي ويقوده إلى مصبٍ يرفد الصناعة والاقتصاد وجميع مجالات الحياة. لا غرو أن الاستثمار في البحث العلمي ومشروعاته يُعَدُّ استثمارا يستحق التعويل عليه ودعمه بالمال الكافي؛ فهو استثمار للعقول والنهضة بالاقتصاد وقطاعات الحياة بمجملها؛ فتستحق بعض البحوث هذا الاستثمار المجزي شريطة الإشراف الدقيق على جميع مفاصل التنفيذ من المختبر إلى المصنع، ولا يتحقق ذلك دون وضوح الاستراتيجية التي أشرنا إليها في الفقرات السابقة.