هل يمكن أن تكون الصين عامل استقرار في الخليج؟
هناك ما يدعو لاستشراف ما يطرحه التساؤل الذي عنون به المقال، فبكين تؤسس مع كل دول مجلس التعاون الخليج وإيران مصالح استراتيجية عملاقة ودائمة، ولو تضررت مصالحها العملاقة مع أي طرف على الساحلين الشرقي والغربي للخليج العربي، فستتأثر بها حتما، من هنا يخرج استشراف العنوان أعلاه، وتتوفر له كل مقومات الموضوعية والواقعية في ظل الضعف الأمريكي الذي ساعد بدوره في تحقيق مصالحة تاريخية بين الرياض وطهران مؤخرا، وجعلها -أي المصالحة- قائدة لانطلاقة علاقات أمنية واقتصادية بين البلدين، ودور بكين في هذا التحول التاريخي في المنطقة، واستضافتها لهذا الحدث يعزز التسليم بهذا الاستشراف بحكم ضخامة مصالحها المستقبلية مع شركائها على ضفتي الخليج العربي، مما يجعلها الفاعل الأكبر تأثيرا، إن لم يكن الوحيد في منطقة الخليج العربي.
سنبرز الاستدلالات التي نبني عليها هذا الاستشراف، وسنحاول التعرض للتساؤل الآتي: أيهما سيكون الأهم لبكين، طهران أم الرياض مع بقية دول مجلس التعاون الخليجي؟ وهذا التساؤل ينبغي أن يطرح ضمن سياقات الاستشراف حتى لو لم تنضج الآن كامل معطيات طرحه، فكيف لو توفر بعضها؟ لأن دول العالم بما فيها دول منطقة الخليج العربي -عربه وفرسه- في مرحلة الصيرورات التاريخية، ويحسب للرياض خطوتها الذكية تجاه طهران، فهي حالة عقلية تعد جزءا أصيلا من فهم منطق هذه الصيرورات في نسختها الخليجية بعدما أصبحت إيران تعمق علاقاتها مع بكين وموسكو في كل المجالات بما فيها الأمنية والعسكرية -قد تناولناها في مقال سابق-.
واللافت أن بكين تؤسس وجودها العميق على مختلف الأصعدة على ضفتي الخليج العربي التي تجمع دولا فيما بينها خلافات تاريخية وحديثة، وكانت قبل المصالحة تنذر بأسوأ الاحتمالات، وتستغل لتأصيل العداوة بين طهران والرياض على وجه الخصوص، وهنا تظهر بكين كعامل دولي وحيد الذي يرتبط بفرقاء الأمس، وأصدقاء اليوم بشراكات مستقبلية تعتمد عليها مستقبلها من جهة، ومستقبل دول الخليج العربي -بعربه وفرسه- من جهة أخرى، وهذا ما نراهن عليه في نجاح المصالحة السعودية الإيرانية، وفي صناعة الاستقرار وديمومته في الخليج العربي، وحجم الاتفاقيات العملاقة والمتعددة التي وقعتها بكين مع إيران ومع السعودية تشكل أهم العوامل التي يمكن أن تصنع الاستقرار المستدام في منطقة الخليج العربي.
فمثلا، وقعت طهران وموسكو وثيقة التعاون الاستراتيجي لمدة 25 عاما، وجاءت زيارة الرئيس رئيسي لموسكو الأخيرة لتنفيذ هذه الوثيقة، حيث تم التوقيع على 20 اتفاقية تنفيذية، مقابل توقيع الرياض وموسكو اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة في العام نفسه، وفي إطارها تم التوقيع على اتفاقيات تنفيذية بين البلدين تقدر بـ 30 مليار دولار، كما تم مواءمة رؤية الرياض 2030 بمبادرة الحزام والطريق الصينية، وهنا منطقة تفكير تحليلية، ويعبر عنها التساؤل الآتي: هل يعقل أن تربط بكين مستقبل مصالحها مع فرقاء متخاصمين؟ وهنا تفسر لنا المصالحة السعودية الإيرانية في 10 مارس الماضي، بأنها خطوة وجوبية لشراكات بكين الضخمة مع طهران والرياض؛ لأنها تأتي لدواعي استقرار واستمرار المصالح الصينية الكبرى في المنطقة.
ودون المصالحة بين أكبر دولتين إقليميتين -الرياض وطهران- كيف تؤمن بكين ديمومة مصالحها الضخمة في المنطقة؟ وهذا يفسر لنا كذلك الأسباب التي تجعل من بكين تتوسط لتحقيق المصالحة بين الرياض وطهران بتعاون مع مسقط وبغداد، واستضافتها ورعايتها توقيع المصالحة ودون المصالحة، ستبدو بكين وكأنها تكسب الوقت، وأنها وصلت إلى قمة الاستفزاز الأمريكي والصهيوني، لكن المسار بخلاف ذلك، فما بين بكين والرياض من تعاون مسبق في مجالات حساسة جدا، ما يجعل بكين تستغل ظرفية التراجع الأمريكي بعدما كسبت من خلال تعاونها مع الرياض بالذات مصداقية في الالتزام بالتعاون ونتائجه على عكس الغرب الأمريكي الذي جل همه مصالحه، فواشنطن منشغلة هذه الأيام بالتفكير في معاقبة بعض حلفائها في الخليج؛ بسبب ما تزعمه بخرقها لعقوباتها على روسيا، مما قلص الفجوة معهم مقابل توسيعها مع بكين.
وهذا ما يرجح كفة الفعل الذكي الذي تمارسه بكين في قلب المصالح الجيوسياسية لصالحها، والقارة الإفريقية نموذجا مثاليا، يقابله الفعل نفسه من قبل الرياض المنفتح على مصالحها الاستراتيجية ببرغماتية المستقبل لا الماضي، ونقل الحاضر لمستقبل دون عداوات إقليمية رغم عدم حل القضايا الخلافية، وعدم الاشتراط بحلها أولا؛ لأنها تعلم أن وضع العربة أمام الانطلاقة، لن تنطلق، فتم تحييدها، وجعل المستقبل الجديد مع طهران كفيلا بحلها في حقبة المشترك الصيني في منطقة الخليج، حيث تجد مصالحها الكبرى فيها، ومع كل دولها، فهم يشكلون لها أولوية وممكن نجاح مبادرتها «الحزم والطريق».
الآن بالذات، ولماذا؟ بسبب التفكير الاستراتيجي السعودي الجديد والذي بسببه أصبحت الرياض تقود الآن براغماتية سياسية واقتصادية بهدف وصولها للعشرة الكبار عالميا، وتطبق هذه البراغماتية بمفهوم تقابل المصالح، وتبادلها من منظورين أساسيين هما، ربط الاستقرار الإقليمي بالازدهار، وربط منحها المالية وعلاقاتها الاقتصادية بالإصلاحات في الدول الأخرى، وبالذات إصلاح الاقتصاد والمجتمع، وهي تظهر هنا أنها منشغلة بمحيطها الجغرافي وامتدادها الإقليمي اللذين سيكونان حاضنتها للعالمية.
ولو احتكمنا لحجم التبادل التجاري مع الصين، فسنجد بكين تعد الشريك التجاري الأول للرياض، حيث بلغت قيمة التجارة بينهما في عام 2021 ما يناهز 80 مليار دولار، وتلقت السعودية في العام الجاري حوالي 5.5 مليار دولار من الاستثمارات والعقود من خلال مبادرة الحزام والطريق الصينية، في حين تمثل الصين السوق الأكبر لاستقبال صادرات النفط السعودي، حيث استقبلت في العام الجاري حوالي 40% من إجمالي وارداتها النفطية من دول مجلس التعاون الخليجي، جاءت نصف هذه الواردات من السعودية وحدها.
ومن اللافت أن العلاقات الصينية ودول مجلس التعاون الخليجي لم تعد ترتكز على استثمارات البنية التحتية وتجارة البضائع والنفط فحسب، وإنما امتدت منذ السنوات الأخيرة إلى مجالات التكنولوجيا والأمن، وهناك خطط مستقبلية ضخمة بشأن الطاقة المتجددة، وقد وقعت بكين منذ عام 2005 صفقات وعقودا استثمارية ضخمة مع دول مجلس التعاون الخليجي بقيمة 116 مليار دولار، جاء نحو ثلث هذا المبلغ من تعاقدات مع الرياض.
وكانت الصين أكبر شريك تجاري لإيران، لكنها تراجعت للمرتبة الثانية بعد تقدم روسيا عليها، كما كانت أحد أكبر مشتري النفط الإيراني قبل أن يعيد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب فرض العقوبات على طهران في عام 2018، وتؤثر كثيرا العقوبات الأمريكية الغربية على المصالح الصينية في إيران رغم عودة التبادل التجاري بينهما إلى الارتفاع، تصبح أمامها منطقة الخليج العربية متاحة لنفوذ مستدام بعد مواءمة مبادرة الحزم والطريق الصينية برؤية السعودية 2030، وبعدما تجد الدول الخليجية الأخرى في بكين الدولة التي يمكن أن تحقق طموحاتها التكنولوجية التقنية العميقة في مختلف المجالات على عكس الغرب.
ومما سبق، يعني أن بكين ستصبح العامل الاستراتيجي الدولي المشترك لإيران ولدول مجلس التعاون الخليجي معا، والرهان هنا على حجم المصالح الصينية في كلا الجانبين، فكلما تكون ضخمة ومتعددة وبنيوية ومشتركة ومستدامة على ضفتي الخليج العربي، كلما ستكون كفيلة بصناعة التهدئة، وبمنع تفاقم التوترات، ومن ثم ستجعل الخلافات التاريخية بين الجانبين محكومة بحتميات التعايش الإقليمي الجديد الذي تقوده المصالح الصينية الكبرى في كلا الجانبين، وسيحرص الكل على استدامة هذا التعايش، وسيسحب مسوغات أي تكتلات ضد طهران؛ لأنها أصبحت جزءا من منظومة صناعة الاستقرار الإقليمي برعاية صينية، ونتوقع الخطوة التالية، حث بكين دول مجلس التعاون وإيران على إقامة نظام أمني إقليمي، فمصالحها المستقبلية تحتم الاستقرار الإقليمي.