هل يتم استنزاف المسؤولية المجتمعية؟
نسمع كثيرا عن المبادرات والمشروعات المتميزة والموجهة لتنمية المجتمع في جميع دول العالم، وكيف بدأت معظم هذه القصص كفكرة، وجاء تمويلها من قبل المؤسسات الإنتاجية والصناعية، وذلك من بند المسؤولية المجتمعية، وكيف استطاعت المؤسسات القادرة على التوظيف الاستراتيجي للمسؤولية الاجتماعية خلق القيمة التنافسية، وتحقيق أقصى المنافع الاقتصادية، ولكن هناك في المقابل أيضا العديد من المبادرات التي حصلت على نفس الفرصة وأخفقت في تحقيق أدنى المكاسب، والسؤال الأهم هنا: هل يجب على المؤسسات المانحة تحويل المسؤولية الاجتماعية من كونها التزاما طوعيا، لتصبح ضرورة استراتيجية؟ أم أن عليها التريث كي لا تقع في فخ الاستنزاف دون تحقيق فوائد؟ وكيف يمكنها توليد القيمة من خلال التأثير المجتمعي الناتج عن تعزيز ممارساتها التجارية المسؤولة والمستدامة؟
في البدء دعونا نتوقف قليلا عند نشأة مفهوم المسؤولية المجتمعية، والاعتراف به وانتشاره بين الأوساط المهنية والمؤسسية، ونجد أن الاعتراف الأممي قد جاء مؤخرا، ولكن ممارسات المسؤولية المجتمعية قديمة قدم الإنسان، ففي عام 1999م ألقى كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، خطابا تاريخيا في المنتدى الاقتصادي العالمي جاء نصه: «أقترح عليكم يا قادة الأعمال المجتمعين في دافوس، بأن تعملوا معنا نحن الأمم المتحدة، لنرسخ معا ميثاقًا عالميًا للقيم والمبادئ المشتركة، مما يعطي وجهًا إنسانيًا للسوق العالمية»، وتمخض عن المنتدى إطلاق الميثاق العالمي للأمم المتحدة (UNGC) في يوليو 2000م، الذي جمع (66) شركة عالمية، وست جمعيات أعمال، واثنتين من منظمات العمل، و(12) منظمة من منظمات المجتمع المدني، وجاء هذا الميثاق بمثابة أداة من شأنها سد ثغرات الحوكمة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، والتي ارتبطت بشكل مباشر بالقضايا الاجتماعية والبيئية، ومن ذلك الوقت اكتسبت المسؤولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات المانحة اهتمامًا عالميًا حتى يومنا الحاضر.
يمكن تتبع التطور التدريجي في الفهم الحديث للمسؤولية الاجتماعية باعتبارها بُنية تعريفية واسعة تركز على قدرة الأطراف المانحة على تحسين فرص أعمالها التجارية، بينما تقدم في ذات الوقت مزايا للسياق الاجتماعي الذي تعمل فيه، وقد نتج هذا الفهم من تطور حياة البشرية عبر العصور، كان الموجه الأساسي في بدايتها هو الوازع والالتزام الأخلاقي نحو تغيير المجتمع للأفضل، ثم قامت الأديان بتعزيز ذلك عبر التعاليم الموجهة للتضامن والتكافل، ولم تكتسب المسؤولية الاجتماعية صبغتها المؤسسية حتى منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما بدأ النقاش حول المسؤوليات الاجتماعية للقطاع الخاص والقطاع الصناعي بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ومع حلول فترة الخمسينيات بدأ عالم الأعمال والمؤسسات في تحديد ماهية تلك الإسهامات المتوقعة من تضمين «المسؤولية الاجتماعية» في خطة عمل المؤسسات المانحة، وكيف يمكن للمديرين التنفيذيين اتخاذ القرارات المناسبة في ضخ تمويلها وفقًا لقيم المجتمع واحتياجاته، ومع مرور الوقت تطور التعريف الأكاديمي الأول للمسؤولية الاجتماعية للشركات، ويعتبر الفهم الحالي لفلسفة وممارسات المسؤولية المجتمعية هو التعريف الرابع، حيث قدمت الأدبيات الأكاديمية فهما جديدا لإعادة إنتاج العلاقة بين المؤسسات المانحة والمجتمع.
ولكن تعريف المسؤولية المجتمعية في سياقها الأكاديمي والإداري يختلف تماما عن واقع الممارسات السائدة في عالم ديناميكي وسريع التغيير كعالمنا الذي نعيشه اليوم، ويجب على جميع الشركاء إدراك ذلك بشكل واع، فإذا وضعنا تحليلا لواقع المسؤولية المجتمعية في معظم اقتصادات العالم نجدها تتمحور حول نسبة تمويل المبادرات الكبرى، أو المشروعات الابتكارية، التي ترتبط بأهداف المؤسسة المانحة بشكل مباشر، أو التي هي محور الاهتمام الخارجي في وقت إتاحة الدعم، ولكن هناك بُعدا فلسفيا يغفل عنه الكثيرون؛ وهو أنه في اللحظة التي تعكس فيها الجهات المانحة اهتمامها ودعمها للقضايا الاجتماعية المحلية والإقليمية، التي لا تكون مرتبطة بشكل مباشر بأعمالها الأساسية، حينها تبرهن الجهات المانحة بأن عملية اتخاذ قرارات المسؤولية المجتمعية لديها تعمل بشكل استراتيجي، لأنها استوفت متطلبات المستوى الرابع من هرم المسؤولية الاجتماعية، وأن الحضور كشريك في معالجة التحديات المجتمعية هو في الواقع متجذر لديها، وينعكس بشكل واضح على مختلف أدوار المؤسسة في سياقها الاجتماعي.
استيحاءً من اتجاهات الفكر الإداري الحديث، فإن الجهات المانحة يمكن أن تحقق ميزة تنافسية من خلال إبراز دورها في دعم وضع الحلول للتحديات المجتمعية، وعلى هذه الجهات اختيار المسارات التي يمكنها معالجة سياقها التنافسي من خلال خلق قيمة مشتركة مع الجهات المستفيدة لتحقيق الفوائد المرجوة للمجتمع، ومن أهم المنهجيات وأشهرها هو أن تبدأ الجهات المانحة أولا بتحليل أعمالها وقطاعات تركيزها، والبحث عن المخرجات التي يمكنها به المساهمة في القضايا القائمة، ويطلق على هذا النهج مصطلح «خريطة التأثير الاجتماعي» لسلسلة القيمة من الداخل إلى الخارج، وتتميز هذه الخريطة بقدرتها على رسم وتحديد التأثير الإيجابي لأنشطتها على المجتمع، ثم إبراز النقاط ذات القيمة الاستراتيجية الأكبر، وبعد ذلك تبدأ الجهات المانحة بإعادة تقييم المخرجات بالنظر إلى ظروف البيئة المحيطة، لفهم تأثير سياقها الاجتماعي على إنتاجيتها، وعلى تنفيذ استراتيجية أعمالها الداخلية، وبهذه المنهجية يمكنها اكتساب قدرة واسعة لفهم علاقتها المتبادلة مع بيئتها الاجتماعية، وتكون مهيأة للتكييف الاستراتيجي ليس فقط في إسهاماتها من المسؤولية المجتمعية، وإنما في عملياتها الأساسية.
إن العلاقة بين جميع الفاعلين تحت مظلة المسؤولية المجتمعية هي من ذلك النوع التشابكي الذي يتطلب الكثير من المعادلات والمفاوضات، فإذا نظرنا إلى الجهة المقابلة، نجد أن الجهات المستفيدة من المسؤولية المجتمعية تبذل جهودا كبيرة للحصول على دعم المؤسسات المانحة، وذلك بإبراز أهمية المبادرات والمشروعات المقترحة، ولكن ضخ التمويل لدعم السياق المجتمعي يجب أن يراعي مصالح الجهات المانحة أيضا، والمفتاح الذهبي هنا هو تعزيز مبدأ خلق القيمة المشتركة من خلال الامتثال للأبعاد الاستراتيجية الرئيسية الخمسة للمسؤولية الاجتماعية، وهي المركزية، والاستباقية، والرؤية المستقبلية الواضحة، والملاءة، والواقعية في المسار الخيري التطوعي، حيث يتضمن بُعد المركزية محور تماسك موارد وأصول المؤسسات المانحة ويجنبها الاستنزاف، ويأتي بُعد الاستباقية في المرتبة الثانية، وهو يتعلق بوجود العوامل الاستراتيجية الموجهة لعملية اتخاذ القرار بالاستثمار في السياق المجتمعي، وثالثا، تظهر أهمية بناء رؤية مستقبلية داعمة للميزة والسمعة المؤسسية، التي تعكس الالتزام الأخلاقي للمؤسسات المانحة، وتتربع الملاءمة في المرتبة الرابعة لتضمن أن القيمة المضافة تؤول لجميع الأطراف، وبشكل إيجابي على المدى الطويل للمؤسسات المانحة، والبُعد الخامس، هو نشر ثقافة الدور التطوعي والخيري البحت بشكل واقعي، فهو وإن كان لا يتضمن عوائد استراتيجية للجهات المانحة إلا أن له أهميته كبعد رئيسي في إدماج منظور المسؤولية الاجتماعية في سمعة المؤسسة وثقافتها، ودورها في فهم احتياجات المجتمع والاستجابة لها، مما يعني أن دمج منظور أصحاب المصلحة هو ضرورة استراتيجية في إعادة تشكيل التوقعات من جميع الفاعلين والشركاء.
وهذا يقودنا إلى الدور الحديث للمسؤولية المجتمعية، وهو تعزيز المساهمة التشاركية والمدفوعة بالبحث عن الاستدامة، وبذلك تتغير المعادلة النهائية، ولن تكون هناك جهات داعمة ومانحة، وجهات مستفيدة، ولكن سيظهر طيف كامل لهذه المسؤولية، مما يعني أنه سيتعين اتخاذ قرارات استراتيجية تسعى إلى تضمين أنواع وأشكال أخرى للمسؤولية المجتمعية، وتأتي على رأسها مشاركة المعرفة، والبحث عن مقومات إنجاح المبادرات والمشاريع الكبرى بإسناد العقول المبدعة والمبتكرة، وإتاحة المعارف الضمنية التي تكفل الإدارة الذكية لهذه المشروعات، مع تعميق الحس التشاركي والانفتاح الشمولي الذي يساهم في إذابة الحدود بين المهام الأساسية وأدوار المسؤولية المجتمعية، وإبراز نماذج عمل ابتكارية قائمة على تضمين التكنولوجيا والتوجهات الفكرية الحديثة التي لم تعد تنظر إلى المسؤولية المجتمعة كممارسة إلزامية، وإنما كمنظور شامل لإيجاد القيمة من المساهمة في السياق المجتمعي، هذا النهج لا يسهم فقط في ضمان استجابة المؤسسات الإنتاجية والصناعية للتوقعات الاجتماعية، وإنما يحفظ الموارد المخصصة للمسؤولية المجتمعية من الهدر والاستنزاف، وبذلك تتم إعادة توجيهها للتحديات الأكثر إلحاحا بشكل أخلاقي وموثوق، وبما يضمن تقاسم العوائد الإيجابية، وبناء تأثير مستدام على الأمد البعيد.