هل يتعارض اللطف مع الصدق؟
ثمة بروتوكولات علينا أن نتبعها في تعاملاتنا الاجتماعية. كأن نُجامل مثلا. لا يُتوقع منا أن نقول الصدق عندما نجامل، أعني أن وقع المجاملة بلا شك سيكون أفضل إذا ما بُنيت على أساس حقيقي، لكن هذا ليس شرطا للمجاملة. تقول مثلا مع نهاية لقاء ما: سُعدت برؤيتك. لا أحد ينظر إلى صحة هذه العبارة، إنه مجرد شيء يُقال. يصح هذا تحديدا في تعاملاتنا مع الأغراب، أو المعارف، أو في المواقف التي تُعد واجبا اجتماعيا.
لا أحد منا يُريد أن يَجرح. اللطف فضيلة نسعى لها، ونبحث عنها لدى الآخرين. إذا ما تبعنا تقليد الفلاسفة الإغريق بتعيين الفضيلة بين رذيلتين (كتعيين السخاء بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين الجبن والتهور)، فيُمكننا ببساطة وضع الفظاظة في طرف، لكن ما الذي يُوضع على النقيض؟ ما الذي يتأتى من المبالغة في اللطف (ونعني هنا تحديدا القول اللطيف)؟ لا يخطر ببالي صفة أفضل من «بياعة الحكي»، وإذا ما نقلنا اللطف لمعناه الأشمل وأخذنا في الاعتبار أيضا السلوك اللطيف (أو التهذيب)، فالنقيض للفظاظة في هذه الحال هو المُداهنة، أو الزيف، أو العيارة كما نقول بالدارجة العمانية.
بياعة الحكي، والمداهنة، والزيف، والعيارة كلها صفات تحوي بقدر ما في أساسها شيئا من انعدام الصدق. ولعل منبع الفظاظة في المقابل هو صراحة تامة، وصدق غير محبذ. يجعلنا هذا نستنتج بالتالي أن في اللطف درجة من الزيف أو على الأقل إخفاء وتلميعا لما يؤمن الإنسان به فعلا.
في اللطف شيء من عدم الأنانية. فأنت تُقدم مشاعر الآخرين على حاجتك الخاصة لأن تعبر عن رأيك بصراحة. في اللطف تفكير مضاعف وشطارة: تقديم رأيك بطريقة لا يبدو أنها انتقادية، وفي اللطف شيء من التفهم، وضع نفسك في مكان الآخرين. في اللطف فوق هذا خوف من فقدان الآخرين، خوف من استهجانهم، خوف من أن تُستبعد. إذ لا يبدو أن «الحقيقة» تستحق كل هذا العناء. عناء احتمالية أن تجرح أو تتورط. لهذا يكون في اللطف شيء من الميوعة شيء من الغموض.
اللطف سمة مطلوبة في تعاملك مع الغرباء خصوصا. لكن ثمة أيضا علاقاتك مع المقربين منك: أصدقاؤك، أو شريكك مثلا. الأشخاص الذين لا يحكمك واجب تجاههم، ولا تُحدد تعاملاتك معهم ببروتوكول بيّن. هنا تتخلى قليلا عن حذرك. فأنت تعرف أن قليلا من الصراحة لن يعني خسارتهم، إذ تقول لنفسك إن هذا مجرد شيء تافه لن ينجح في تهديد العلاقة. لكن أيضا ولأن هذا الشيء تافه، «ما يسوى» التعبير عنه.
ربما ولأننا غير قادرين على الصدق التام، أو على أن نكون فظين، ننجذب لشخصيات خيالية مثل هاوس إم.دي. شخصيات بالغة الجرأة، بالغة الصراحة والصفاقة. وكأنها تمتلك قوى خارقة تجعلها فوق إنسانية. إنها لا تقل جاذبية عن شخصيات مثل سوبرمان بهذا المعنى، فمثلما يتحرر سوبرمان من قيد الجاذبية الأرضية في طيرانه، يتحرر الدكتور هاوس من القيد الاجتماعي الملزم لأكثريتنا. بالطبع يأتي هذا بنتائج سيئة، ليس للأشخاص الذين يُسيء لهم فحسب، بل وله شخصيا. إذ ينتهي به الأمر مضطرا للتعامل مع الوحدة، مع نفور الآخرين منه، مع استبعادهم له، وحرمانه من فرص أفضل كونه يحمل هذه «الإعاقة» الاجتماعية. مع ذلك نُبارك شجاعته في أن يختار أن يكون خارج النظام الاجتماعي. نُبارك صعلكته، ونُكبر فيه إقدامه وثورته. فالسلطة، أي سلطة كانت، أي قيد علينا، يأتي مع أحلامٍ ثورية لتحطيمها، للنيل منها. يمنحنا هذا العالم المتخيل الذي هو جزء منه فسحة للتفكير في حيوات بديلة -غير ممكنة عمليا- ولكن مجرد التفكير بها يمنحنا اللذة في حياة اجتماعية سعيدة .
شكوانا من زيف بعض علاقاتنا يعني انعدام الصدق، لكنه يعني أيضا عدم وجود أساس محبة وراءه. يجعلنا نُفكر مثلا هل تفعل ما تفعله لأجلي، لشعورك أن هذا هو الواجب إذا ما سألك الآخر شيئا، أو هذا هو التقليد في مثل هذه الحالات: أن تحضر «الكيك» في عيد ميلادي، والورد إذا مرضت. تُصبح الدلالات التي تُقرأ عادة على أنها إشارات للاهتمام، مجرد قيود جديدة لاستمرار مسرحية الزيف هذه. آه عليّ إذا بالمقابل أن أفعل الشيء ذاته إذا أردت الاحتفال بمناسبة، أو غلبك المرض. تُصبح العلاقات تبادلات عمياء محسوبة. أعطي بقدر ما آخذ، وآخذ بقدر ما أُعطي. دون النظر فيما أحتاجه فعلا، وما تحتاجه فعلا، وإلى الاختلافات في شخصياتنا وطرق تعبيرنا. ودون الاهتمام فعليا بمصير الأخير، ليس على المستوى الحقيقي، وليس للمدى البعيد. فإذا ما فشلت في رد الجميل في هذه العلاقة التبادلية، تُصبح خارجها دون تسامح، أو حاجة للتبرير من قِبل المعرض عنك.
ثمة صدق غير مستحب، وثمة لطف غير مستحب. وبينهما كثير من المحاولات، والتجرؤ، والندم، والتعلم من الأخطاء. لكن ثمة غفران أيضا، ثمة مُكاشفات تُعيد ترتيب الأشياء، وثمة فسحة للتجريب، وثمة وقت لمعرفة الآخر وتقديره تقديرا كاملا بمحاسنه وعيوبه.