هل يؤدي رفع أسعار الفائدة مبكرا إلى الازدهار مبكرا؟
البرازيل، وتشيلي، والمجر، ونيوزيلندا، والنرويج، وبيرو، وبولندا، وكوريا الجنوبية جميعها بلدان رفعت أسعار الفائدة مبكرا وعاليا، ولكن حتى بعد زيادة بلغت في المتوسط ست نقاط مئوية خلال العام المنتهي في أكتوبر، لا يزال التضخم في ارتفاع والنمو في تراجع. تُـرى هل ارتكبت بلدان «Hikelandia»، كما تسميها مجلة الإيكونيميست، خطأ سياسيا؟
كلا بكل تأكيد، كان التحرك قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ومنطقة اليورو التصرف السليم الواجب، خاصة وأن التضخم كان من المرجح أن يستمر في ظل الظروف الحالية. وكان الانتظار ليتطلب زيادات أكبر في أسعار الفائدة، مع تكلفة أثقل في ما يتصل بالإنتاج. جاء الزخم الأولي لارتفاع الأسعار مع انهيار سلاسل التوريد ونُـدرة الغذاء بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا. وكان ذلك بمثابة صدمة دفعت التكاليف التي يتحملها الاقتصاد العالمي إلى الارتفاع. وكانت الصدمة الثانية التي دفعت التكاليف إلى ارتفاعات أكبر راجعة إلى قوة الدولار الأمريكي الكلي القدرة. كل البلدان التي رفعت أسعار الفائدة مبكرا وعاليا تطبق نظام أسعار الصرف العائمة. ومع ارتفاع قيمة الدولار إلى عنان السماء وهبوط قيمة عملات هذه البلدان، ارتفعت الأسعار المحلية للواردات، فعمل ذلك على تغذية التضخم. يدرك كل طالب اقتصاد جامعي أن احتواء التضخم عندما ترتفع التكاليف أمر بالغ الصعوبة؛ لأن الشركات لن تمتنع عن تمرير التكاليف الأعلى إلى المستهلكين إلا إذا كانت مبيعاتها ضعيفة وتوقعاتها باهتة. هذا يعني أن أي خفض للتضخم يتطلب أسعار فائدة أعلى، وبالتالي نشاط اقتصادي أضعف. من ناحية أخرى، أي زيادة بعينها في أسعار الفائدة ستؤدي إلى تخفيف أقل، وسوف يستمر التضخم. والدليل الأول على ذلك البلدان التي رفعت أسعار الفائدة مبكرا.
كان من الأنسب لو تمكنت البنوك المركزية في هذه البلدان من وقف الزيادات في التكاليف عند المصدر. ولكن لأنها لم تتمكن من إقناع الصين بتخفيف سياسة خفض الإصابات بمرض فيروس كورونا إلى الصِـفر، أو إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالكف عن إمطار كييف بالصواريخ، أو إقناع الأسواق المالية العالمية بالتوقف عن تضخيم قيمة الدولار، كانت قوة السياسة النقدية الفظة هي كل ما تبقى لديها من أدوات.
لم يخل الأمر من سبب آخر وراء كون ارتفاع أسعار الفائدة حتميا. فقد زادت جميع البلدان التي رفعت أسعار الفائدة مبكرا الإنفاق الحكومي في الاستجابة للجائحة، وهو التصرف السليم. وكانت التحويلات النقدية، وخطط الإجازات، والتمويل الإضافي للأطباء والمستشفيات، ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، تدابير مناسبة مع تفشي المرض. لكن الضغط على مُـسارِع الميزانية أسهل من الضغط على مكابحها.
في العديد من البلدان التي رفعت أسعار الفائدة مبكرا، دام التعزيز المالي لفترة أطول مما ينبغي، مما جعل الانكماش النقدي التعويضي حتميا. لم يكن هذا مثاليا، ولكن مرة أخرى لم يكن لدى القائمين على البنوك المركزية أي بديل، خاصة وأنهم لا يسيطرون على السياسة المالية. في دولتين، بيرو وشيلي، اشتمل الأمر على ظرف واحد أدى إلى تفاقم المشكلة: السياسة القصيرة النظر إلى حد الحماقة التي سمحت للمدخرين بسحب الأموال من حسابات التقاعد الخاصة بهم أثناء الجائحة. كانت تلك المدخرات غير كافية بالفعل لدفع دخول التقاعد اللائقة؛ والآن ستكون معاشات التقاعد أقل بدرجة أكبر. الواقع أن كلا من حكومة بيرو وحكومة تشيلي دخلت الأزمة بمستويات ديون عامة منخفضة، وكان بوسعها مساعدة مواطنيها دون حثهم على مس حسابات تقاعدهم. علاوة على ذلك، كانت المبالغ المسحوبة كبيرة إلى الحد الذي جعل من المحتم أن تتسبب الزيادة في الإنفاق في إنتاج التضخم. وضع المدخرون في شيلي أيديهم على 40 مليار دولار، أو أكثر من 14% من الناتج المحلي الإجمالي. ففرغت أرفف المتاجر الكبرى، وارتفعت مبيعات السيارات والأجهزة المستوردة إلى عنان السماء، مما دفع عجز الحساب الجاري إلى ما يقرب من 9% من الناتج المحلي الإجمالي، ولم يجد البنك المركزي أي اختيار غير تشديد سياساته. ولكن لماذا سارع القائمون على البنوك المركزية في البلدان التي رفعت أسعار الفائدة مبكرا إلى التحرك، في حين تخلف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي عن المنحنى؟ كانت البرازيل أول دولة تقرر إحكام سياساتها، في مايو 2021. ثم تبعتها بولندا، ونيوزيلندا، وغيرهما بعد فترة وجيزة. وانتظر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي حتى مارس 2022، والبنك المركزي الأوروبي حتى أواخر يوليو. لعل أحد الاحتمالات أن العديد من البلدان التي رفعت أسعار الفائدة في وقت مبكر شهدت تضخما مرتفعا مؤخرا، ولهذا كان لدى الناخبين وصناع السياسات نفور داخلي من زيادات الأسعار. ربما يصدق هذا في حالة البرازيل وغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية التي رفعت أسعار الفائدة مبكرا، وربما يصدق هذا أيضا في حالة دول أوروبا الشرقية، لكنه أقل منطقية في نيوزيلندا أو النرويج، حيث ظل التضخم منخفضا لفترة طويلة. يتمثل احتمال آخر في أن أغلب هذه الاقتصادات، باستثناء البرازيل، صغيرة ومنفتحة تماما، وبالتالي تمثل وارداتها حصة ضخمة من الاستهلاك المحلي. أضف إلى هذا المخزون الكبير من الديون بالعملات الأجنبية (في كثير من هذه البلدان)، فيصبح لديك مكونات ما أطلق عليه الاقتصاديان جييرمو كالفو وكارمن راينهارت ذات يوم وصف «الخوف من التعويم»: إحجام عن التسامح مع انخفاض قيمة العملة على النحو الذي يدفع صناع السياسات إلى رفع أسعار الفائدة عند أول إشارة لضعف العملة. اقلب هذه الفرضيات في الاتجاه المعاكس، فيصبح لديك تفسير معقول لتأخر الولايات المتحدة ومنطقة اليورو في التحرك: كل من الكيانين ضخم، وليس مفتوحا بشكل خاص، ولم يشهد أي تضخم مرتفع مؤخرا. بدا الأمر وكأن صناع السياسات كانوا نائمين على عجلة القيادة إلى أن أيقظتهم الضوضاء الصاخبة التي أحدثها التضخم الخارج عن السيطرة. صحيح أن التضخم الأساسي واصل الارتفاع في البلدان التي رفعت أسعار الفائدة مبكرا، لكنه لم يكن كله آلام بلا مكسب. ففي بعض البلدان، مثل كوريا الجنوبية، بدأ تضخم أسعار المساكن يتراجع، وهذا غالبا يشير بتباطؤ الزيادات في أسعار المستهلك. وفي بلدان أخرى مثل البرازيل، انخفض التضخم بشكل حاد في الشهرين الأخيرين.
حتى الآن، لم يختف تماما خطر بقاء التضخم على عناده. ولكن هناك أيضا خطر يتمثل في تجاوز السياسة النقدية لهدفها، مع انخفاض الناتج بشكل حاد، ليجر معه التضخم إلى الهبوط الحاد. أحد الأسباب وراء احتمال تحقق سيناريو الهبوط الحاد هذا، والذي أكد عليه كبير خبراء الاقتصاد لدى صندوق النقد الدولي سابقا موريس أوبستفيلد، هو أن كل بنك مركزي في العالم تقريبا مشغول بإحكام سياساته، وبهذا تسهم البنوك المركزية أيضا في تهدئة نشاط اقتصادات أخرى. وإذا فشلت في وضع هذه التداعيات في الحسبان، كما يقول أوبستفيلد، فقد تتسبب في «تباطؤ عالمي تاريخي». الواقع أن ممرا ضيقا بين التضخم المستمر والهبوط الحاد موجود بالفعل. بعد نجاحها في الإبقاء على توقعات التضخم تحت السيطرة، تستطيع البلدان التي رفعت أسعار الفائدة مبكرا أن تواصل مسارها على هذا الطريق. إن تجنب التباطؤ أمر مستحيل، أما تفادي الركود فلا ينبغي أن يكون مستحيلا. هل يصل من كان مبكرا في رفع أسعار الفائدة إلى الازدهار بسرعة أكبر؟ لا شك أن البلدان التي رفعت أسعار الفائدة مبكرا تأمل أن يكون الأمر كذلك. ونرجو أن لا تذهب آمالها أدراج الرياح.
أندريس فيلاسكو المرشح الرئاسي السابق ووزير المالية في تشيلي، وعميد كلية السياسة العامة في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
خدمة بروجيكت سنديكيت