هل وراء كل مشروع عظيم استراتيجية عظيمة؟
عندما تنجح المشروعات الضخمة التي ترتبط بتحديات كبرى، وتحقق ما يفوق توقعات الشركاء وعموم المجتمع، يتذكرها الجميع بأنها مشروعات عظيمة، فهل وراء كل مشروع عظيم «استراتيجية عظيمة»؟
في حل التحديات الاقتصادية أو الاجتماعية الكبرى تقع على المخططين الاستراتيجيين مسؤوليةً جسيمةً، هم يقفون في الخطوط الأمامية قبل تنفيذ العمل، وهم أيضا يتصدرون قائمة أسباب إخفاق المشروع إذا فشل التنفيذ عن تحقيق الأهداف المرجوة، وقلةٌ هم المخططون الذين يسعون لوضع أفكارٍ ذكيةٍ موضع التنفيذ، وإيجاد مسارات مبتكرة لتحفيز التغيير الإيجابي من جهة والاستدامة في مخرجات التغيير من جهةٍ أخرى، فالمخططون المحنكون وحدهم من يستطيعون تعريف اتجاهات إبداعية لتطبيق الخطط، وفتح مدارات استراتيجية في سياق القرارات والخيارات والموارد اللازمة للتنفيذ المُتقن، وهذه هي «الاستراتيجية العظيمة».
ظهر مصطلح الاستراتيجية العظيمة في مسارات الفكر الإداري منذ عقدين من الزمن، تتجذّر أصول الأفكار الكامنة وراء هذا المصطلح المستجد من الحاجة إلى تطوير قدرة المؤسسات الحكومية والخاصة على الحفاظ على تركيزها الاستراتيجي، في تطوير وصياغة وتنفيذ الأفكار الجيَّدة ضمن أجندة الاستراتيجية المؤسسية، وذلك من أجل خلق القيمة التنافسية أو تحقيق الأسبقيات التنافسية، بتضمين جميع مكونات العمل المؤسسي بدءا بالهوية والقيادة وأنماط القيم التنظيمية والاختيارات الإدارية حتى أبسط العمليات والإجراءات والخدمات التي تقدمها المؤسسة.
مع وجود كل هذه الأبعاد فإن الاستراتيجية العظيمة تصبح أداةً فاعلة لإحداث التأثير الإيجابي الذي يجعل من المشروع أو المؤسسة نموذجا ناجحا ومزدهرا، لأن منهجيات العمل تصبح منظمة ومتوازنة بين المتطلبات البيئية للمؤسسة على الصعيد الخارجي، وبين الاختيارات الإدارية والمعرفية داخل المؤسسة، كما أنها تحفز الذكاء القيادي بتوظيف الحس الاستراتيجي والبعد التكتيكي في إدارة تنفيذ الخطط استيحاءً من «الأنسنة» أو مركزية العامل البشري باعتباره قطب كل الخطط الإدارية، وهي مدرسة فكرية معاصرة تضع الكثير من الأهمية في محور تنمية القدرات البشرية، وفق نهج يحقق توازنا مقبولا للمكاسب المؤسسية والمعنوية والمعرفية والفردية.
إذن من أين تأتي الاستراتيجيات العظيمة، وما دور المخطط الاستراتيجي؟ هل هذه الاستراتيجيات هي نتاج التطور والاختيار المستمر الذي تفرضه طموحات المؤسسات للخروج من دائرة الأنماط التقليدية إلى مؤسسات فاعلة اقتصاديا واجتماعيا ومعرفيا؟ أو أنها تأتي مصادفةً من محاولات مخططين مبادرين يسعون نحو إعادة صياغة وتعريف قطاعات كبيرة من العمل المؤسسي؟ أو أنها نتاج البصيرة الفائقة لمخططين من ذوي الخبرة العميقة في اكتشاف الفرص الذهبية للنجاح والتفوق؟ وهل باتت الاستراتيجيات العظيمة مطلبا ضروريا للمؤسسات من أجل المحافظة على أدائها في بيئة عملٍ تنافسية وديناميكية؟
هذه التساؤلات تمنحنا مرتكزا تحليليا يمكن من خلاله تفسير أصول الاستراتيجيات العظيمة، فنجدها تنشأ وتتشكل عندما لا يتوقف المخططون عند الخيارات التقليدية، التي قد يراها الاستراتيجيون الآخرون مقبولة، إنما يواصلون البحث عن مسارات ابتكارية وغير معتادة في تنفيذ أهداف العمل، ويأخذون هذه الأفكار لأبعد من مجرد مشاركتها وتنفيذها، وبذلك تدخل مهمة المخططين الاستراتيجيين منحنى آخر من حيث البحث عن مساحة التطوير والتميز في حزم المكونات المؤسسية، وذلك بشكلٍ مغايرٍ عن النهج الاعتيادي، مما يلهم الثقة بريادة المعرفة وإبداع العقل الإنساني في بلورة المسارات الاستراتيجية الناجحة.
قد يعتقد الكثيرون بأن الاستراتيجيات العظيمة هي خطط بالغة التعقيد، ولكن على العكس تماما فإن هذه الاستراتيجيات تتميز بسهولة الفهم والقابلية العالية للتنفيذ، فهي وإن كانت تستهدف معالجات متعددة المستويات، مما يشكل مصدرا محتملا للتباين في الخيارات الاستراتيجية والنتائج المصاحبة لها، إلا أنها في المجمل خطط واضحة ومركزة، وهدفها تعظيم العوائد من كل اختيار في جدول أعمال الخطة الاستراتيجية، وهناك أمثلة عديدة للاستراتيجيات العظيمة ألهمت العالم في معالجة التحديات مثل استراتيجية التحول إلى اللامركزية في إدارة الملكية الفكرية وبراءات الاختراع الناتجة عن الأنشطة البحثية والابتكارية، التي كان يتم تمويلها بدعمٍ حكومي في الجامعات ومراكز البحوث الأمريكية، ظهرت الحاجة لوضع استراتيجية شاملة لإدارة المخرجات التكنولوجية مطلع السبعينيات من القرن الماضي، بعد تفوق اليابان في الإنتاج الصناعي المتقدم، وخصوصا في تقنيات الآلات الدقيقة للسيارات والإلكترونيات، مما أكسبها ميزة تنافسية على المنتجات الأمريكية في السوق العالمية.
ركزت استراتيجية التحول إلى اللامركزية على محور إدارة ثروة المواهب العلمية في الكليات والجامعات الأمريكية، باعتبارها المسؤولة عن تطوير الاختراعات العلمية المبتكرة التي هي عماد الاقتصاد المعرفي، ونتج عنها تشريع باي-دولي الشهير الذي أُقرَّ في ديسمبر 1980م، وهو يتناول تمكين الجامعات ومؤسسات البحث العلمي والتطوير غير الربحية والشركات الصغيرة من امتلاك الاختراعات التي تم تطويرها بموجب برامج البحوث الممولة حكوميا. وفقًا لمجلة الإيكونوميست فإن تشريع باي-دولي يعد من أكثر التشريعات إلهامًا في سياق الاقتصاد المعرفي خلال نصف القرن الماضي، وأطلق عليه لقب «الإوزة الذهبية للابتكار» في معظم مقالات الدوريات العلمية المرموقة، حيث أتاح هذا التشريع الاستغلال الواسع للإمكانات التجارية لمخرجات البحوث الممولة من الدعم الحكومي، عن طريق بناء الشراكات الفاعلة بين مؤسسات القطاع البحثي والأكاديمي والقطاع الصناعي، مما شجع الشركات الصغيرة المبتكرة والقائمة على التكنولوجيا، والشركات العلمية الناشئة على النمو والمنافسة في الأسواق العالمية، وتعد استراتيجية التحول إلى اللامركزية من المُمكنات الفاصلة في تاريخ الابتكار في الولايات المتحدة الأمريكية وقد تم استنساخ هذه التجربة في معظم اقتصاديات الدول الساعية نحو التحول لاقتصاد ومجتمع المعرفة على مستوى العالم.
إذا عدنا للسؤال مرة أخرى: هل وراء كل مشروع عظيم «استراتيجية عظيمة»؟ ومع وجود الشواهد التاريخية على نماذج للخطط المتميزة والاستثنائية، يؤكد المفكرون الإداريون بأن خطط الاستراتيجية العظيمة لوحدها غير كافية وقد تخفق بسبب التنفيذ الفاشل، كما أن التنفيذ الفائق والمتقن لا يمكن أن يأتي بنتائج إيجابية إذا كانت الاستراتيجية ضعيفة، وبذلك فإنه من الضروري الالتفات إلى حقيقة أن الأداء الباهت للمشروعات قد لا يرتبط باستراتيجية خاطئة أكثر من ارتباطها بسوء التنفيذ، وهذا ما يتطلب الفهم الواعي والمُدْرك بأهمية تطوير أدوات التخطيط الاستراتيجي والارتقاء بالفكر الإداري عبر نمط الابتكار التجديدي، الذي يستلهم من أنظمة الطبيعة المرنة والمكتفية ذاتيا فكرة توظيف الإبداع الذاتي وديمومة التجديد والتكيف.
فنجد أنه من الأهمية بمكان قبل الشروع في تطوير استراتيجية جديدة، وتوجيه الوقت الثمين والموارد في التخطيط، يجب تحليل توقعات التنفيذ على مستوى العوائد والنمو معا، يجب على الاستراتيجية الموعودة أن تحقق عوائد مادية ومعنوية وقِيَميِّة بشكلٍ أفضل، مقارنةً بالوضع الحالي الذي تطلب إعدادها، مع الحفاظ على نمو مستدام في هذه العوائد دون إرباك أو تغيير متذبذب، ولا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة دون سد الفجوة بين الاستراتيجية والتنفيذ، والالتزام بمراجعة المحاور التشغيلية للأداء مقابل برامج الخطة الاستراتيجية، مع التسليم بأن العمليات التي تستخدمها المؤسسات وفرق العمل لتطوير الخطط الاستراتيجية ومراقبة الأداء تجعل من الصعب أحيانا تمييز ما إذا كانت هذه الفجوة تنبع من سوء التخطيط، أو التنفيذ السيئ أو كليهما، وهذا ما يجعل معظم المؤسسات تفصل بين قراراتها المالية والاستثمارية طويلة المدى وبين خططها الاستراتيجية.
ففي معظم الحالات تعد الاستراتيجية مفهوما مبهما وشديد التجريد، ودائما ما يتم الخلط بينها وبين الرؤية أو الطموح المستقبلي. بالإجمال الاستراتيجية ليست فكرة يمكن توصيلها لأذهان الموظفين أو ترجمتها إلى خطواتٍ عمليةٍ بسهولة، إذ يصعب على المستويات التنفيذية في المؤسسة رسم الرابط الواضح بين الخطة الاستراتيجية والأداء الفعلي، لأن الاستراتيجية بطبيعتها ليست صريحةً ومتاحةً للفهم مثل العمليات المؤسسية، وهذا يعيدنا لنقطة البداية وهي ضرورة الالتزام بلغةٍ واضحةٍ تصف تركيز الخطة، بتعريف ما يجب أن تفعله المؤسسة وما لا يقع في نطاق تركيزها، ثم التأكد من أن جميع المستويات الإدارية على فهم كافٍ بالاستراتيجية ومسار تنفيذها والأدوار المتوقعة من كل مستوى إداري، ثم ربطها بالموارد المالية والبشرية حتى يتم تحديد المسؤوليات بوضوح.
وهذا يقودنا لأهم محور في سياق الاستراتيجية العظيمة وهي قيادة التنفيذ، فنجد أنه لا وجود لوصفة محددة من أجل صياغة نموذج قيادة ناجحة ومثالية لتنفيذ الاستراتيجية العظيمة، لكن هناك عدة سمات يجب أن تتوفر لسد الفجوة بين الاستراتيجية والأداء الفعلي، وهي القدرة على رسم المسار الواضح وتحفيز المستويات التنفيذية وإلهامهم، مع إظهار الالتزام في تحقيق النتائج، والابتكار في التواصل وتوجيه الموارد المتاحة بشكل يضمن الوصول لإنجازات صغيرة ومستمرة، بدلا من انتظار إنجاز واحد كبير ومُبهر، وبذلك تصبح عملية التنفيذ قادرة على توليد الأفكار والتوقعات ضمن دائرة من التحفيز والدافعية، فالأفكار والمواهب تطور الأداء الفعلي في التنفيذ، الذي بدوره يُسرِّع من التعلم والتطور وينتج عنه مواهب ومهارات جديدة، حيث تغذي هذه المهارات الأداء مرة أخرى، لذا فإن هذه الحلقة المتواصلة ليست مصدرًا لتحسين الأداء الفوري فحسب، إنما هي أيضًا محرك مهم للتغيير على مستوى ثقافة وأخلاقيات العمل، والالتزام المهني في إحداث التأثير الإيجابي على دور المؤسسة واستراتيجياتها وسمعتها المؤسسية وقدرتها التنافسية، مما يؤكد أن تحويل استراتيجية عظيمة على أداء عظيم هو أمر متاح، والاستراتيجية ليست مستندا يوضع في أرفف المكاتب حتى يتراكم عليها الغبار، إنما هي أداة عمل فاعلة إذا تم توظيفها لبناء تصورات مستقبلية، ثم توجيه الموارد ومسارات العمل بإنتاجية نحو الرؤية المنشودة، مع امتلاك الميزة التنافسية المستدامة.
د. جميلة الهنائية كاتبة وباحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار