هل نحتاج إلى تجديد في فكرنا الإسلامي ومساراته؟

06 نوفمبر 2024
06 نوفمبر 2024

من خلال حضوري الدائم لمعارض الكتب الدولية، سواء فـي بلادنا فـي السنوات الماضية التي لم يفتني منذ انطلاقته بمسقط فـي بداية التسعينات من القرن الماضي حتى الآن وكان من أنجح المعارض العربية، أو فـي حضوري بعض المعارض الخارجية فـي بعض الدول العربية ،عندما يتصادف وجود معرض للكتاب فـيها، وأكون إما زائرا وإما لحضور أحد المؤتمرات أو الندوات، ولا شك أن فكرة التجديد مسألة لا خلاف فـيها فـي فكرنا العربي الإسلامي، وهناك أحاديث تؤكد أهمية التجديد، فأجد صدور كتب جديدة عن التجديد لبعض الكتاب، وهؤلاء ليس لهم اهتمامات إيجابية للفكر الإسلامي، لكن الأغرب أن الداعين لهذا التجديد والإلحاح عليه فـي ذلك فـي هذه الكتابات، كونهم من خارج منظومة فكر الأمة وتوجهاتها الفكرية فـي التجديد،، فأغلب هؤلاء معروفون أنهم متعلقون بالفكر الليبرالي أو العلماني فـي الرؤى والمنطلقات العامة، لكن الإشكال أن بعض هذه الدعوات، تريد أن تغيّر أو تحذف بعض النصوص القطعية، لتتماشى مع الفكر الغربي ومنطلقاته الفكرية التي تخالفه فـي الرؤية العامة التي تعد من صميم القيم الإسلامية الثابتة، لكن الفكرة التي ينطلقون منها، فـي دعواتهم للتجديد، مثل تأويل النص القرآني أو قراءته أو تجديد الخطاب الديني الخ بما يخالف النظرة الأخرى للقيم فـي الفكر الإسلامي.

والواقع أن مسألة تجديد الفكر الإسلامي أو إعادة فهمه أو قراءته ليس مرفوضًا أو مستهجنًا، كاجتهاد بشري قابل للأخذ والعطاء والمراجعة، لكن الذي يرفض هو استحداث رأي أو تجديد ما يُطرح عند البعض من الليبراليين فـي النص القرآني أو تأويله، أو رفض بعض أحكامه بحجة «تاريخية» نصوصه لمرحلة معينة! وهذا القول مردود عليه وسنناقشه تاليًا لتوضيح أخطاء هذه الرؤى، والفارق كبير بين التجديد الذي هو مطلب إسلامي، فـيما لا نص فـيه فـي الشرع الإسلامي، وبين التجديد فـي القضايا الجزئية الفرعية، التي هي بعيدة عن القطعيات والثوابت كما يعرفه أهل الاختصاص.

وللأسف أن بعض هؤلاء يسقطون ما فعلته الكنيسة الغربية على الغربيين من حيث الجمود ومحاربة العلم والتقدم والنهوض الفكري والعلمي، ووصل إلى قتل العلماء والمخترعين، وبين الإسلام وظروف التراجع والتخلف، الذي لا دخل للفكر الإسلامي لما جرى للأمة من تراجعات، وكانت نتيجة سياسات خاطئة، وليست ممانعة من قبل الإسلام ضد العلم وضد النهوض والتقدم، الذي لا شك أن الإسلام أرسى مبدأ العلم والمعرفة، فـي الآية المعروفة التي وردت فـي سورة:(العلق): وتسمى أيضًا سورة (اقرأ)، والحديث النبي الشريف: (اطلبوا العلم ولو بالصين). وهناك الكثير من الأثر عن أهمية العلم والمعرفة فـي الإسلام وليس العكس، لذلك إسقاط ما جرى من صراع بين الكنيسة الغربية وبين العلماء والمثقفـين فـي الغرب، لا ينطبق على دين الإسلام ولا رؤيته للعلوم والاختراعات.

فالإسلام دين العلم والمعرفة وشجع عليها، وليس فـي العلوم الدينية فحسب، بل وفـي سائر العلوم الفلكية والتجريبية والعقلية والرياضيات والكيمياء والفـيزياء، وحركة الترجمة من الثقافات الإنسانية، وسائر العلوم التي تبرز فـي كل عصر، وعند كل حضارة أو ثقافة، تستجد فـيها المعارف وتتطور، لذلك لا يوجد تنافر بين دين الإسلام والعلم.

فهذه الكتابات التي تتحدث عن أهمية التجديد وضروراته الملحة، يقصد منها أهداف أخرى لا تلتقي والحاجة للتجديد وفق المفهوم الفكري للإسلام، والتي منها تجديد أو تطهير أو نفض الغبار عما تراكم على أصول الدين من سكون وجمود وغيرها مما هي مغايرة لمفاهيمه الصحيحة والنقية. والإشكالية الخطيرة فـي فكر هؤلاء ـ كما يقول د/ رضوان السيد ـ أن الذين يدعون للتجديد اليوم: «لا يجتهدون فـي ابتداع طرق أفضل بل يحاولون التخلص من الإسلام كله. تارة بالقول: إنهم يريدون تطهيره من الخرافات والأساطير بالعودة إلى الينابيع، وطورا بالقول: إن جمود الفقهاء يجمد الإسلام ولا بد من التخلص منهم فـيتجدد الدين. ودون التشكيك فـي مقاصد البعض، فأنني أزعم أنه إذا نظر المرء لنفسه كواحد من هذه الجماعة المسلمة فـي سعيها نحو النهوض والتقدم، فإنه لن يجد عائقا على حركته إلى الأمام لا من الإسلام ولا من فقهائه. إن المعوّق هو ذلك الذي يضع نفسه خارج جماعة المسلمين ثم يحاول أن يحدّد أسباب بطئها فـي مسيرة التقدم فتضّله الجزيئات عن فهم عموميات المسائل وسياقاتها».

ونتيجة للالتباس والخلط فـي مفهوم التجديد أصبح البعض من المشتغلين بالفكر الإسلامي يتوجسون من مقولات التجديد وضروراته لعصرنا، لأن الكثير من المدعين دخلوا على خط هذه المشروعية الإسلامية، وحاولوا أن يطرحوا بعض القضايا والمفاهيم المغايرة لمفهوم التجديد الإسلامي ومضامينه، والبعض الآخر يقصر مهمة التجديد فـي التحذير من البدع والمحدثات التي توصف بأنها شر الأمور، وهناك من يحصر التجديد فـي الجانب السياسي أو الاقتصادي لا غير، وهناك من يكتفـي بربط القرآن الكريم بما جد من حقائق العلم والمعرفة معتبرًا أن التجديد هو التفسير العلمي للقرآن الكريم، بل هناك من يوسع مفهوم التجديد الديني حتى يكاد أن يشتت ويبدد تحت شعار الحداثة ، وما ستتبعها من كلام لا يتوافق مع رؤيتنا الخاصة، وهناك من يركن للتقليد والانكماش ولسان حاله يقول: ليس فـي الإمكان أبدع مما كان.. وهذه أيضًا يحتاج إلى فهم بحقيقة مفهوم التجديد ومقاصده.

كما أن مهمة التجديد ليست مقتصرة على فهم خاص أو جانب من جوانب الإشكالات فـي الفكر الإسلامي أو ظاهرة حياتية فـي واقعنا واقتصارها عليه، وإنما التجديد كما جاء فـي مشروعيته يرتبط بحاجتنا لهذا التجديد ومراميه وأهدافه بصورة جلية ومفتوحة بما يطرح من إعادة النظر فـي قضايا مستجدة وملحة طرأت على واقع الأمة وجعلت مسألة التجديد قضية تحتاج إلى حراك فكري إسلامي تستعيد الفهم الصحيح لهذا الدين، والتبصر بما سيكون عليه حاضرنا والتخطيط السليم للمستقبل، وفـي الوقت نفسه لا تحيد عن المرجعية الإسلامية فـي طرح ما نراه ضروريًا وملحًا فـي قضايا ومسائل التجديد، لكننا أيضًا علينا أن نستفـيد من معطيات العصر ومنجزاته وتطوراته العلمية فـي عالم اليوم، دون أن نرتبط بالهوية أو الثقافة الغربية، لذلك الفارق المهم أن نستفـيد من جوانب العلوم البحتة والمناهج المحايدة فـي التطورات العلمية والفكرية، مع التمسك بالهوية الوطنية، وهذه مسألة مهمة وفارقة فـي الجانب الفكري والثقافـي لكل أمة من الأمم، والتجديد يتحقق بما يتناغم مع ثقافة هذه القيم ومحددات رؤيتها العامة، دون غيرها من الثقافات.

كما أنه لا يوجد ما يتناقض مع هذا الدين وحقائقه الثابتة، فالبعض قد يتوهم أن التجديد يناقض ثوابت الإسلام واكتماله، فـيرفضون مبدأ التجديد كلية، ويعتبرونه تهديم للدين نفسه، وهذا ليس صحيحًا أبدًا ـ كما يقول د/ محمد عمارة ـ فالتجديد هو: «السبيل لامتداد تأثيرات الدين الكامل وثوابته إلى الميادين الجديدة، والأمور المستحدثة، والضمان لبقاء ((الأصول)) صالحة دائمًا لكل زمان ومكان .. أي أنه هو الضمان لبقاء الرسالة الخاتمة خالدة الخلود الذي أراده الله، ولولا مد ((التجديد)) الفروع الجديدة إلى الجديد من المحدثات، وإقامته الخيوط الجديدة بين الأصول الثابتة وبين الجديد الذي يطرحه تطور الحياة. ولولا تجديده الدائم الذي يجلو الوجه الحقيقي والجوهر النقي لأصول الدين وثوابته. لولا دور ((التجديد)) هذا فـي حياة الإسلام ومسيرته لنسخت وطمست هذه الأصول، إما بتجاوز الحياة الممتدة لظل الفروع الأولى والقديمة، فـيعرى هذا الامتداد الجديد من ظلال الإسلام، أو بتشويه البدع ـ عندما تتراكم ـ لجوهر هذه الأصول. ((فالتجديد))، إذن، هو السبيل لاستمرارية ـ أي ثبات - الدين الكامل، وليس نافـيًا لثباته واكتماله».

صحيح أن الأزمة الحضارية الراهنة للأمة قد حالت دون انطلاقتها كما ينبغي لها، وان التخلف والتراجع جعل الأمة تتشبث بتراثها وهويتها باعتبارهما الملاذ الأخير من الذوبان والانسحاق أمام الاختراق الثقافـي والفكري، لكن هذا الواقع المتأزم لا يعفـي هذه الأمة من الصمود والنهوض لتغيير ظرفها الطارئ، ولا تستسلم لهذه الأزمة التي لها أسبابها الكثيرة، ليست مجال حديثنا، لكن علينا أن ننتبه للاختراق الثقافـي الموجه للأمة فـي ظل الأبواب المفتوحة، سواء بمقولات مطلب التجديد، أو القبول بالأفكار الوافدة التي تطرح بين الحين والآخر، وعلينا أن نميز الأخذ الذي يتناسب مع هويتنا الوطنية، وبين ما نراه خارج السرب والمنطلقات الذاتية للأمة.