هل نحتاج أفلاطون بهذا القدر فعلا؟
لا يكاد يوجد شخص في دائرتك مهما صغر سنه، ومهما بعدت اهتماماته عن الفلسفة، لا يعرف أفلاطون. تُصادف أناسا مطّلعين، لا يُحدثك العربي منهم عن ابن رشد، أو الصيني منهم عن كونفوشيوس.
على النقيض مما قد يُوحي به العنوان أو المقدمة القصيرة، فأنا لا أنوي نقد المركزية الأوروبية في المعارف (وإن كان هذا واجبا)، بل نقد (أو بالأحرى التأمل في) مقدمات المناهج الدراسية كما تُدّرس حاليا، والذي لا ينطبق حصرا على الفلسفة وحدها. أتأمل اليوم في موضوع عام ألا وهو إمداد الطلبة في الجامعات (وحتى في المدارس) بما له علاقة بحياتهم، بما يدور حولهم، بما يتعرضون له، ويتعاملون معه على نحو يومي من أفكار ومواضيع.
لنبدأ من هذا السؤال الكبير: ما الذي نتوقعه من الجامعات؟ ولأن هذا هو السؤال المفتاحي وليس موضوعنا الأساسي سأُجازف بالقول إن ثمة مهمتين أساسيتين للجامعة: تكمن الأولى في تحضير التلميذ/ة لاتخاذ مهنة ما، والثانية -والتي هي برأي كثيرين أقل أهمية- الإعداد للحياة. لعل الإعداد للحياة ليس الوصف الدقيق، ولكن المقصود هو إمداد الدارس/ة بأساس عريض من المعارف التي يُمكنه البناء عليها. تدرس مثلا مُقدمة عامة حول التاريخ، الموسيقى، الأدب، أو الفلسفة (ليس في عُمان على أي حال)، أملا في أن يكون الطالب في المستقبل قادرا على البناء على ذلك الأساس والتوسع في المواضيع التي تهمه، والتي لها علاقة مباشرة بحياته.
ما تشكو منه المقدمات في الغالب أنها تحاول -على الأغلب، بحسن نية من قِبل واضعيها- أن تبني الأساس، وتعود عميقا في جذور الحقل المدروس، على نحو يجعلها مفتاحية، وقابلة للتوسع، لكن النتيجة النهائية تبدو منقطعة الصلة بوقتنا الحالي وقضاياه. ما يجعل الدارس -نتيجة لذلك- غير قادر على تطبيق ما يتعلمه خارج غرفة الدرس (ليس على نحو مباشر وواضح على أي حال). والنتيجة الخطيرة لهذا الأمر هو تعزيز تلك السردية الشائعة بأن العلوم الإنسانية لا «نفع» فيها. تخيل أن شخصا ما يدرس الهندسة، ولطبيعة تصميم البرنامج الذي يدرسه يأخذ مقررا في الأدب، ليجد نفسه متورطا مع نصوص ابن بطوطة، أو أشعار المتنبي. دون اهتمام خاص -عدا بالحصول على علامة جيدة في المقرر- يدرس الطالبُ المنهج، يُنهيه، لتكون هذه آخر صلة له بالأدب. لكنه ولواقع الحال، يترقى في المراتب ليُصبح رئيسا تنفيذيا لشركة كُبرى، أو ليُصبح مديرا لقسم المسؤولية الاجتماعية. إنه الآن يُقرر مقدار ما يذهب وأين يصب، خصوصا في بلدان أخرى حيث تُمول الشركات الأبحاث، أو البرامج الجامعية، للحد الذي يجعلها (تقريبا) قادرة على التدخل في تصميم البرنامج بما يتوافق مع احتياجاتها لتُدر المزيد والمزيد من الأرباح. هذا الذي يُقرر الآن بشأن المتلقي لهبات الشركة، لن يجعلها بالتأكيد تصب في صالح موضوع لم يخرج فعليا منه بأي نفع. إنه بالطبع سيختار ما يكرس في النهاية لتلك الفكرة حول كون بعض المعارف لا تستحق الاهتمام.
المقدمات العامة مقابل المواضيع المختارة: ما يُمكن فعله من قبل مصممي البرامج الدراسية هو جعلها أكثر ارتباطا بالواقع اليومي، بالحياة كما هي اليوم. يُمكن تحقيق هذا عبر هجر التقليد الأفقي في بناء المعرفة، أي بناء الأساس (يُمكن أيضا الجدال بما يُعد أساسيا إلا أن هذا خارج اهتمامنا اليوم)، وتبنّي تقليد جديد يُعنى باختيار مواضيع مُحددة. كأن يدرس طالب الهندسة في مقرر الأدب الوحيد الذي سيسجل فيه -طوال حياته الجامعية- مواضيع مثل الاغتراب، معنى الحياة، التفهم، التعاطف، وطرق المقاومة الصغيرة ضد ما ينهش دواخلنا.
انتقاء مواضيع ذات ارتباط بالحياة العصرية يحتاج -دون شك- لموهبة خاصة. وأنا أفهم نفور البعض من هذه الفكرة لكونه يضع السلطة بيد المختصين دون مرجع موحد ومعتمد، وأنه فوق ذلك سيمد الطلاب بمعرفة دقيقة حول موضوع بعينه، بينما هم يجهلون الكثير حول مواضيع تُعد «معرفة عامة». لكن -صدقا- ما جدوى هذه المعارف العامة، التي لا تفعل شيئا سوى أنها -ربما- تؤهل الفرد لحدس جواب السؤال في ألعاب ترافيلا، أو ذلك الذي يطرح في مسابقات من سيربح المليون وما شاكلها. ما نفعها؟ أعني كيف تُساعد هذه المعارف على جعل حياة الفرد أيسر، كيف تمده بأدوات للتعامل مع حياته؟ أحسب أنها لا تفعل أيا من هذا. تخيل في المقابل لو أن دارس التاريخ عوضا عن أن يدرس الحروب العالمية، والحرب الأهلية الأمريكية، يُبحر في موضوع ما تعنيه الكتابة التاريخية أساسا، يدرس كيف يُمكن تلقي هذه القصص التي تُلقى عليه من قبل معلميه ومن الإعلام شرقا وغربا.
يبدو أن مصممي المقدمات «101» يطمحون لأن يُعدوا الطالب ليحتل أي مكان في العالم: المقدمة التي تُدرس في الهند لا تختلف (إلا قليلا، ولأسباب سياسية في الغالب) عن تلك التي تُدرس في عُمان أو في بريطانيا. لكنهم بهذا -أي مصممو المناهج- يتأكدون من أن أيا من طلاب هذه الدول الثلاث (وإن قدموا من ثقافات مختلفة) يشتركون في البناء المعرفي نفسه. إنهم قادرون على الحديث عن الحروب والثورات «المهمة»، وعن «الرجال المهمين» الذين صنعوها. دون أن يفرق كثيرا ما إذا كنت تعلم من شُنّت عليه الحرب أو من شنها.
خلاصة الأمر، أن ما يتعرض له الطالب غير المختص عبر مقدمات الحقول الأخرى يجب أن يكون أكثر من مجرد درس ممل حول موضوع لا يهمه. يجب أن يُؤثر (قدر الإمكان) في حياته على نحو ما، يجب أن يكشف القدرة الهائلة للحقول الهامشية -التي لا يصبح دارسوها بالضرورة الأثرى أو الأعلى مكانة في المجتمع- على صنع حياة أفضل.