هل سيكون مصير لندن وواشنطن في الخليج المصير الفرنسي في إفريقيا؟
المقالة بعنوانها لا تستفز صناع القرار في لندن وواشنطن بقدر ما تضعهما في حالة تفكير مختلفة لتفكيرهما الراهن المطمئن على مستقبل منطقة نفوذهما في دول مجلس التعاون الخليجي، كما تضع تشخيصًا دقيقًا أمام الأنظمة الخليجية بمآلات هذا المستقبل في ظل استمرار حالة الترهل البريطاني والأمريكي في المنطقة، وثقتهما بديمومة مصالحهما الاستراتيجية الجديدة والقديمة فيها دون أن تغيرا من سياستهما الآمرة والناهية على كل الصعد، واعتقادهما أنهما قد ضمنتا مصالحهما في هذه المنطقة لخمسين سنة مقبلة، وهذا وهم، ولا ينفذ لمنطق الصيرورات التاريخية التي تحدث حاليا على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وهي -أي الصيرورات- التي تدفع بباريس الانسحاب من القارة الإفريقية، فما هي الضمانات التي تبني عليها لندن وواشنطن ثقة بقائهما في الخليج طويل الأجل؟
هنا ينبغي دراسة الحالة الفرنسية من منظور الصيرورة وليس الأسباب المجردة التي تقف وراء نضوجها -سنحدد لاحقا مفهوم الصيرورة- والصيرورة وأسبابها، تلتقيان في زمن سياسي إفريقي جديد لم تستوعبه باريس، وتعمل على الاعتداد باستحقاقاته الإفريقية الضرورية، فاستمرت في علاقتها القديمة نفسها، وكأن الزمن في إفريقيا قد توقف عندها، فكان من الطبيعي أن تنتج حالة الرفض الإفريقية للوجود الفرنسي، وتساؤلنا عن الضمانات الأمريكية سالفة الذكر، هو نتيجة إعمال العقل الذي يقودنا إلى هذا الربط، لأن الصيرورة هنا زمنية ذات بعد حضاري وإنساني، من هنا نضع ذلك التساؤل فوق الطاولات السياسية لحكومات دول المنطقة، مع التساؤل التالي، ما مدى مساهمتها في انضاج أسباب الصيرورة الزمنية؟.
والمفارقة البحثية للمقالة، أن الترهل -بمفهوم الاستكانة والاطمئنان- قد وجدناه مشتركا، فمقابل ترهل لندن وواشنطن لنفوذهما في الخليج، هناك ترهل خليجي متفاوت للحماية الأمريكية والبريطانية خاصة بعد تجديد اتفاقيات الحماية التاريخية معهما، وتوقيع اتفاقيات جديدة أخرى تمنح امتيازات جديدة للأمريكيين والإنجليز لمدى طويل الأجل، وهناك ثقة مبالغ فيها للكثير من عواصم خليجية لهذه الحماية، مما يجعلها تحصر إصلاحاتها الأساسية في المجالين المالي والاقتصادي دون الإصلاح السياسي، وحتى الإصلاح الأول ينصرف نحو فرض الضرائب ورفع الدعم الحكومي عن المجتمعات دون أن تكون المجتمعات شريكًا للحكومات في اتخاذها، مما ينشأ هنا بعدًا حتميًا للصيرورة.
ولما بحثنا في عمق أسباب الطرد الفرنسي من إفريقيا، وجدناها في ابتلاع الثروات وفشلها في ضمانة الأمن رغم وجود جنودها على الأرض، وسلوكها الاستعلائي، وكأنها لا تزال في حقبة الاستعمار القديم، في وقت يتعمق الفقر والجهل في بنية المجتمعات الإفريقية، ويزداد الوعي الإفريقي بواقع الوجود الفرنسي في إفريقيا، ومآلاته وخلفياته، مما ولّد ذلك مناهضة شعبية ضده، فالوعي الاجتماعي والسياسي قد تطور بحيث نجده منتجًا لرفض الوجود الفرنسي في إفريقيا، مما يعطي هنا الاستشراف بتأثير القوة الناعمة على كل متوارث مختل، وكل علاقة مع الأجنبي لا تكون وراءها منافع وطنية ملموسة، أولا تحترم خصوصياته وثقافاته، وتلتقي هذه الأسباب مع صيرورة زمنية عالمية عابرة للحدود، لا تزال في بدايتها، ورغم ذلك، تتمكن في اختراق مناطق النفوذ التقليدية، وتتمثل في الحالة الإفريقية في منافسة دول كبكين وموسكو وأنقرة وحتى واشنطن وباريس داخل القارة الإفريقية.
وهنا تتضح لنا جدلية الصيرورة وأسبابها، فالأسباب قد تظل قائمة، ما لم تتوفر الصيرورة الزمنية، وإذا ما التقت في لحظة ما، فإنها تنتج التحولات التاريخية والإنسانية، والصيرورة بهذا المفهوم التوضيحي تعني التحول النوعي والكمي الفجائيين، وهو ما لم تحسب له باريس، لأنها لا تزال غارقة في رومانسية استعمارها القديم، لذلك ليس من السهولة للفرنسيين أن يعلنوا مؤخرا خروج آخر جندي فرنسي من إفريقيا الوسطى بعد انسحابها بفترة من غرب إفريقيا .. الخ، ويتزامن الانسحاب الفرنسي مع تنامي أدوار بكين وموسكو وأنقرة .. وتظل الرهانات الإفريقية الآن على حجم المنافع والمصالح وليس التاريخ، فالأبواب الإفريقية مفتوحة على المنافع، مما يزيد من ثقة الشعوب الإفريقية بخطوة انقلابها على فرنسا، وهذه الثقة ستكون عابرة للجغرافيات السياسية في العالم الثالث.
لن تستثنى أي دولة في العالم من حتميات الصيرورات التاريخية، وهي الآن في مرحلة مخاض متقدمة، فخليجيا نجدها كامنة في الاستكانة على الحماية الأمريكية والبريطانية، ولن تدوم، لأنها ستنكشف مجددا، كما انكشفت إبّان استهداف الطائرات المسيّرة لجماعة أنصار الله لعواصم خليجية، ونجده كذلك في التحول في مفهوم الدولة من دور اجتماعي في إطار الليبرالية إلى دور نيوليبرالي، وهذا التحول يتم بصورة دراماتيكية وفورية دون التدرج التي كانت فلسفة البناءات الوطنية في دول مجلس التعاون الخليجي، وفي بعضها حتى دون التنسيق بين الوزارات داخل الدولة الواحدة، وربما تكون أسباب هذا التحول مقبولة إبان أزمتي النفط وكورونا، لكن ماذا الآن بعد أن انتهت الأزمتان النفطية والصحية، وعادت الأسعار النفطية مرتفعة؟.
وهذا التحول يدخل في منظور الصيرورات الداخلية للدول، وليس السيرورات، ونقصد بهذه الأخيرة التحول الناجم عن تراكم متوالٍ على عكس الصيرورة، وأبرز مظاهر هذا التحول الضرائب، كضريبة القيمة المضافة التي تطبق بنسب مختلفة، فهناك دول تطبقها 15% وأخرى 5% وأخرى ترفض تطبيقها .. وكرفع الحكومات الخليجية الدعم عن الوقود وخدمات كانت مجانية، كالاستمرار في الخصخصة، وبروز قضايا البطالة والغلاء .. إلخ.
وينتج هذا التحول تغييرات جوهرية في ثلاثية الطبقات الاجتماعية، ويحولها إلى طبقتين متصارعتين مستقبلا، وهذا التحول وبراديكاليته ودراماتيكيته يمس جوهر السيكولوجيات الاجتماعية، وتجفف مشاعر وعواطف منظومة الولاء والانتماء التي تأسست من خلال المفهوم الاجتماعي للدولة في الخليج.
وبالتالي تتم صناعة تجفيف هذه العواطف والمشاعر أو قد تتغير باتجاه من يؤمّن حقوقًا أساسية كالعمل والسكن .. وسيظهر فوق مشهد الدولة الجديدة في الخليج شركات محلية وأجنبية ذات أجندات وأيديولوجيات متصارعة مع الأيديولوجية الخليجية .. إلخ مما تصبح من كبرى مهددات منظومة الولاء والانتماء للمجتمعات الخليجية، وكيف إذا ما تقاطع هذا التجفيف مع انكشاف ضعف الحماية الأمريكية والبريطانية ومع الاستفزاز الأمريكي للأيديولوجية والخصوصية الخليجية؟.
وفي مقال سابق وصفنا الفكر الأمريكي/ الغربي بالغباء السياسي، ونكرره مجددا، فلو كانت واشنطن ذكية، لرأت غباء محاولتها فرض ثقافتها وخصوصياتها على الشعوب الخليجية في مرحلة يتغير فيها ميزان القوى على الصعيدين العالمي والإقليمي، فواشنطن/ بايدن لم تكتف بضمانة نفوذها في المنطقة، بل تحاول فرض الإلحاد والنسوية والمثلية فيها، وتجاهر بتخصيص أموال طائلة لنشرها، ولو كانت ذكية، لما تستفز أيديولوجية الشعوب في وقت تخترق موسكو جيوستراتيجية منطقة الخليج بتحالفها الجديد مع طهران، وإقامة قاعدة عسكرية على الضفة الإيرانية لمضيق هرمز، وهذا الاختراق الروسي هو مؤشر على قرب موعد الصيرورة في المنطقة إذا لم تغيّر واشنطن من سلوكها مع الخليج، وتعتد بمصالحها المعاصرة، وفعلًا لو كانت واشنطن ذكية، لما أقدمت على الاستفزاز الشعبي في مرحلة الإصلاحات المالية لشركائها في الخليج، وذلك لما فيها من آلام اجتماعية قد تتقاطع مع الآلام الأيديولوجية.
ولو بحثت سفارات الغرب، وبالذات الأمريكية في سيكولوجية الشعوب الخليجية الآن بالذات، لاكتشفت بسهولة تنامي الكراهية للسياسات الأمريكية في الخليج، وستصنع حالة عنف سيكولوجية مستدامة، ويكون لها تأثيرها على استراتيجية بقائها في الخليج لخمسين سنة أخرى، وينبغي عليها أن تحلل بعمق الحالات الشاذة التي تظهر فوق السطح الخليجي، فهي محدودة جدا، ومن الطبيعي داخل أي مجتمع أن تبرز فيه حالات شاذة للأيديولوجية المجمع عليها، وستكتشف أن الخليج سيظل محكوما بأيديولوجيته ومنتصرًا لها، ومن الغباء صناعة التحول إلى الحالة العنفية، وقد تشكل الحالة الإفريقية مصدر إلهام للشعوب عامة.
كما لا يمكن الرهان على واشنطن ولندن، والغرب عموما، فكل المؤشرات تشير إلى أنها ستدخل في أتون حالة عنف داخلية في ظل بروز الآن حالات رفض شعبي لكل القوى السياسية التي حكمتها مهما كانت أيديولوجيتها بسبب غلاء المعيشة والتضخم والإنفاق الضخم على الصناعات التسليحية والتسلح، وانتشار الأفكار الإقصائية مثل الشعبوية واليمين المتطرف .. الخ وكل من يتابع المظاهرات التي تجتاح أوروبا سيجد أنها تحمل حكوماتها مسؤولية مآلات أوضاعهم، ويرفعون شعارات مناهضة لها، وقد تسقط كيانات أوروبية كالاتحاد والناتو، فالرهانات الخليجية هنا ينبغي أن تكون على قوتها الناعمة، وعلى تعدد تحالفاتها وتنوعها، لتشمل بكين وموسكو، مع الاحتفاظ بتاريخية علاقتها مع لندن وواشنطن لكن بعد تصحيح اختلالاتها في الاتفاقيات، وتعديل سلوكهما السياسي، فذلك ضمانة طويلة الأجل للاستقرار في الخليج.