هل ثمة فجوة .. بين العام والخاص؟
shialoom@gmail.com
يفرض مصطلح العام والخاص نفسه كأحد المحاور المهمة في حياة كل المجتمعات، حيث يحدد العلاقات، ويفسح المجال للتصورات، وقد يوجد الكثير من الرؤى الذاهبة إلى الانتصار لأحدهما دون الآخر، أو استغلال أحدهما لمصلحة الآخر، ومع ذلك كله، لا يمكن القول إن العلاقة بينهما علاقة جدلية؛ لأن مسارات كل واحد منهما واضحة؛ لا تحتاج إلى كثير من التعليل والتبرير، وانطلاقًا من هذا الوضوح يأتي التطاول على العام أكثر؛ لأنه عام، وهذه العمومية تشعر الفرد في بيئته الخاصة أنه يملك هذا العام، أو جزءًا منه، أو أنه له حق فيه، سواء أكان حاصلا على هذا الحق بصورة مباشرة، ومستمرة، أو متقطعة على مراحل أو محرومًا منه بالمطلق، كما يشعر البعض بذلك، وإن كانت حقيقة العام ليست كذلك بالمطلق.
فكل ما هو موجود هو أصله «عام» وكل ما يتسلسل بعد ذلك يدرج من ضمن الخاص، ومعنى ذلك أن الخاص هو جزء من العام في كل أحواله، ومعنى ذلك أيضًا أن العام مقدم على الخاص لأنه الأصل، والأصل مقدم على الفرع بالضرورة، وليست المسألة اختيارية، إلا لمن يريدها أن تكون اختيارية، فهذه مسألة أخرى في المشهد العام، وتحدث، وبكثرة، وهذا من الفطرة، فالإنسان معروف عنه ينتصر لخاصته، ومصلحته، وينظر إلى العام من بعد تحققه من اكتمال الخاص عنده، للشعور الموجود أن الخاص ليس من مهمته المحافظة على العام، ولا هو مسؤول عنه.
يشكل كل من القطاع العام؛ والقطاع الخاص ركنين أساسيين من بناءات الدولة الحديثة، وينظر إلى تكاملهما، وتعاونهما بكثير من الاهتمام، بل يعد تكاملها في مسيرة التنمية دليلا على قوة وحنكة وحكمة النظام السياسي في أي دولة، وبالتالي فهما جناحان لا تستطيع الدولة أن تحلق في سماوات الإنجاز والتطور بأحدهما دون الآخر، مهما بلغت من قدرات مادية ومعنوية، بالإضافة إلى أن القطاعين هما من أساسيات الصور الرئيسية للأنظمة الحديثة، ويمكن القياس على تجارب كثيرة في العالم عندما اهتمت بأحدهما دون الآخر، كيف هو واقعها التنموي اليوم، وفي ظل متغيرات دولية كثيرة، والمناقشة تذهب أكثر ليس إلى ما يذهب إليه مفهوم المؤسسة (مؤسسة القطاع العام/ مؤسسة القطاع الخاص) وإنما إلى اختزال المعنى في ماهية العام، وفي ماهية الخاص، فالعام؛ على أنه ملك الدولة، ويظل في عموميته الشاملة للجميع، ويهم الجميع، ومسؤولية الجميع، ويستمد قوته ومكانته ومعزته من الجميع، ويحظى بعناية الجميع، وهو بهذه الصورة يتقصى اهتمامه من الجميع؛ بلا استثناء؛ وأما الخاص؛ على أنه ملك خاص، وفي ظل خصوصيته المحدودة؛ فهو لا يخرج عن مسؤولية من يملكه، ومن يعتني به، ومن يتولى مسؤوليته، وهو بهذه الصورة أيضًا يتموضع في محيطه المحدود بهذه الخصوصية، والفرق الجوهري بين الاثنين، أن العام معني بالمحافظة على هذا الخاص، في جميع ظروفه وأحواله اليسر منها أو العسر، أما الخاص فعنايته بالعام تظل محدودةً، ولكن يجب أن تكون حاضرةً في جميع المواقف والأحوال، وإلا عد الإخلال بهذا الشرط نوعًا من نكران الجميل، لأنه امتداد لهذا العام، فحالة التقاطع بين الاثنين قائمة، وبقوة التكامل، والضرورة الواجبة التي لا مناص عنها، ولا يسمح بأية عملية انعتاق بينهما ولا ذوبان يؤدي إلى انصهار أحدهما في الآخر.
يعد الخلط بين القطاعين؛ بحيث يصبح العام خاصًا والخاص عامًا؛ من أسوأ التجارب التنموية على مستوى العالم، فلكل قطاع شروطه الخاصة للبقاء والاستمرار، ولكل قطاع مساحته الخاصة التي يتحرك من خلالها لتعزيز وجوده وبقائه، ولكل قطاع رؤاه واستراتيجياته، وخططه وبرامجه، ولا يمكن الاطمئنان لحالة الخلط -إن حدثت- سواء صدفة أو لظروف معينة، أو من خلال خطوات ممنهجة يتقصدها أحدهما على الآخر، بل يعد ذلك من المهلكات التي يجب تركها في حالة نشأتها أو بروز مظاهرها، والدول من خلال أجهزتها الرقابية؛ لا شك؛ أنها تحرص كل الحرص على عدم الاقتراب من هذا الخلط، فضلا أن تحققه على الواقع، وينظر إلى هذه الرقابة على أنها من الممكنات المهمة للنظام السياسي في الدولة، لخطورة الموقف إن حصل.
تحدث -أحيانا- ظروف يتطاول فيها الخاص على العام، ويعد ذلك مهلكة، للعام، ولا يجب أن يطول عمر هذا التطاول، ومن الضرورة بمكان أن تقطع أوصاله في أقرب فرصة من خلال تطبيق القانون؛ لأن في ذلك فسادًا مقيتًا، وتحجيمًا لقدرات العام عن أن يؤدي دوره المنوط به، وفي ذلك ضرر على الأمة كلها، بينما تعود المنفعة في مثل هذه الظروف -الاستثنائية- على عدد قليل من مجموع الخاص، بينما الغالبية العظمى متضررة -بلا شك- وهذا ما يستلزم محاربته، والوقوف ضده، سواء بسلطة القانون، أو بالقوة القاهرة لولي الأمر، لأنه لا مراهنة إطلاقًا في ضرر المجموع لصالح الخاص، وهذا أمر مفروغ منه في الأنظمة السياسية على اختلاف مناهجها، وتوجهاتها، قد يحدث أن تنشأ بعض الفجوات بين الطرفين العام والخاص، بفعل الممارسات غير السليمة من قبل بعض الأفراد، وذلك انعكاس للتفريط في الأخذ بالأنظمة والقوانين ذات العلاقة بينهما، ولكن سرعان ما يتم تجسير الفجوة بينهما من خلال تفعيل القيم القانونية الضابطة في عمليات التفاعل، وتعد مثل هذه الفجوات -إن حصلت- حالات معابة، ولا تنبئ عن علاقة سليمة؛ لأنها تنتهج أساليب مخالفة للقوانين غالبًا، ولا تمارس بشكل علني، وإنما عبر ممارسات، ووسائل يحاربها القانون، ويضرب بيد من حديد في حالة اكتشافها، أو انتشارها، وهذه الفجوات مهلكة -بكل تأكيد- لبرامج التنمية، ومعرقلة لمشروعاتها المختلفة، ولا تعكس بيئة صحية لهذه العلاقة التي يجب أن تكون على امتداد خط سيرها الأفقي والرأسي علاقة قائمة على الاحترام والتعاون، والتكامل، وليس على انتهاز الفرص، ومخالفة القيم القانونية، أو الأعراف المجتمعية، ومع ذلك فهناك من المقاربات المتاحة بين القطاعين (العام والخاص) باعتبارها البوصلة المؤدية إلى نهاية النفق بلا تكلف، وبقليل من الخسائر في حالة حدوثها؛ بفعل الظروف المستجدة؛ ولعل أولها وأقربها مودة هي عملية التكامل بين القطاعين، فكلاهما يشد من عضد الآخر، وكلاهما مكمل لمشروعات الآخر، ومن هنا يأتي حرص الحكومات على تعزيز بقاء، وتطور القطاع الخاص؛ لأن في ذلك صورة بهية لقدرة القطاع العام على التطور والتحديث، ووضوح الرؤية فيما يريده من القطاع الخاص أن يقوم به خدمة للوطن الكبير.
تؤكد أحداث الواقع ومجرياته أن الخاص يراكم الثروة على حساب العام، فالعام يتيح للخاص هذه الفرصة من خلال كثير من الممارسات التنظيمية، بما في ذلك من قوانين منظمة، ومن علاقات تشابكية بين الطرفين، فكل مشاريع العام تنفذ عن طريق الخاص، والعام يعمد إلى تعزيز الخاص وينظر إلى ثروة الخاص على أنها أحد المعززات أو الأوجه التي تعكس مستوى الرخاء الذي يسود العام في كل جوانبه التنموية، وهي الغاية الكبرى التي يسعى إليها العام، ومعنى هذا أن العلاقة بين الطرفين علاقة تشابكية، وتكاملية، ولا بد أن يسودها التعاون المستمر، وليس انتهاز الفرص، والتحايل على القوانين.
يحصن العام؛ عادة؛ بمجموعة من القوانين، والنظم والسياسات، حتى لا يتم الاعتداء عليه من قبل الخاص، فالدولة ومن صميم سياستها أن تضفي على العام نوعًا من القدسية والتمكين والاحترام، ويفترض أن تتعمق هذه الصورة في الناشئة منذ البدايات الأولى للمعرفة، وذلك من خلال تخصيص مناهج تعليمية، تغرس في الطالب هذه الثقافة القدسية للصالح العام، والقدسية هنا معناه التمسك بالقيم الضابطة للمحافظة على كل ما من شأنه أن يعطي العام مكانته، واحترامه، وعدم استغلاله، أو الزج به في متون الخاص، حتى لا تضيع هويته، ويختلط «الحابل بالنابل».
واختم هنا بنص جميل لـ«جون إهر نبرغ؛ جاء في كتابه (المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة مترجم) يقول فيه: «في العائلة يختفي العقل خلف الشعور والعاطفة، وفي المجتمع المدني يظهر باعتباره أداة للمصلحة الفردية الذاتية. ولكن في الدولة فقط يصبح العقل واعيًا بذاته، ويفيد في التحرر الإنساني بأن يتيح لنا بناء أفعالنا طبقا لفهمنا للصالح العام»- انتهى النص فالصالح العام -وفق الكاتب- ينعتق من كل التجاذبات التي تحيط بنا، بدءًا من الأسرة، مرورًا بالمجتمع، حيث تذوب كلها في الصالح العام.