هل تهاوت نظرية التحدي والاستجابة؟
شاعت نظرية التحدي والاستجابة كما أوضحها المؤرخ البريطاني الأشهر (تويمبي) 1889– 1975م باعتبارها النظرية المؤسسة لفهم التاريخ الذي لا يمكن معرفته إلا باعتباره وحدة متكاملة وإن كان يمضي في سياق زمني يختلف من عصر إلى آخر وأن التاريخ تجربة إنسانية متكاملة على الرغم من تباين كل تجربة وفق موقعها الجغرافي وسياقها التاريخي لكن التجارب التاريخية في النهاية تظل ذات طابع مركزي يمتد عبر الجغرافيا والزمن لكن في النهاية هي تجربة واحدة متكاملة.
هكذا سادت أفكار تويمبي وانتشرت في أوساط المؤرخين والساسة ودافع عنها المؤرخون في كثير من دول العالم وخصوصًا فيما يتعلق بنظرية تواصل الحضارات التي قد يتبدد بعضها أو يمضي، لكنها لا تموت أبدًا ولا يرى تويمبي ضيرًا من اضمحلال أو تراجع حضارة ما لأن التجارب في مجملها لا تذهب سدى وإنما تنتقل إلي غيرها في تجارب أخرى وقد تكون أحد مصادر قوتها لذا فإن التجارب الحضارية لا تزول أبدًا وإنما الذي يحدث أن التجربة الحضارية عندما تكتمل دورتها قد يتراجع دورها لسبب ما وأحيانًا تتلاشي ملامحها لكن من المؤكد أنها لا تموت أبدا وإنما تتلمس طريقها إلى أية بيئة حضارية أخر لكي تواصل رسالتها واستمرارها.
التاريخ البشري عند (تويمبي) سلسلة متواصلة وفق قواعد إنسانية ولا يمكن أن تخضع كل تجربة حضارية للصدفة وإنما كل حادثة ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بما سبقها من أحداث وفق ما قال به هذا المؤرخ الكبير (نظرية التحدي والاستجابة) والتجارب التاريخية تمدنا بأحداث عديدة يستحيل الفصل بينها سواء في التاريخ القديم أو الوسيط وصولًا إلي التاريخ المعاصر.. ولعل تجربة الحرب العالمية الثانية التي ضربت العالم لا يمكن فهمها إلا علي ضوء ما سبقها من أحداث، لعل الحرب العالمية الأولى كانت في مقدمة العوامل التي تسببت في قيام الحرب العالمية الثانية وهكذا تبدو العلاقة الوثيقة التي تؤكد ترابط الأحداث، لذا فمن الصعب فهم أحداث الحرب العالمية الثانية إلا في سياقها التاريخي المرتبط بأحداث الحرب العالمية الأولى.
أعتقد أن كل الأفكار التي قال بها (تويمبي) ليست جديدة، بل هي من البدهيات وخصوصًا في سياق عالمية التاريخ، ووحدة الأحداث وتأثير الحضارات السابقة على الحضارات اللاحقة فالحركة التاريخية كل لا يتجزأ والتاريخ العام قوامه الخاص والخاص لا يكتمل إلا بالعام، لذا فالقضايا التاريخية الكبرى في العالم لا يمكن فهمها أو تفسير أحداثها إلا في سياقها العالمي فلا يمكن فهم ما أصطلح على تسميته بالمسألة الشرقية مثلًا إلا بالوقوف على سياسات دول عديدة أوروبية وشرق أوسطية.
إذا كان (تويمبي) قد صاغ كل أفكاره ونظرياته التي روّج لها كثير من المؤرخين والفلاسفة إلا أن كل ذلك يتهاوى أمام فكرة بسيطة للغاية. فالتاريخ باعتباره فعلًا إنسانيًا لا يمكن وضعه في قواعد رياضية صارمة لا تستقيم والأحداث التاريخية والحضارية ذات العلاقة الوثيقة بسلوك الإنسان في قراراته ومسيرة حياته ودرجة وعيه الاجتماعي والسياسي وجميعها أمور يستحيل وضعها في سياق رياضي صارم.
تأتي الكثير من الأحداث التاريخية متلاحقة وقد يأتي بعضها كرد فعل لأحداث أخرى لذا فمن الصعب صياغة التاريخ الإنساني وفق النظرية التي قال بها (تويمبي) التي تعتبر التاريخ بمثابة قواعد رياضية وتطبيقية وإعمالها على فعل إنساني تحكمه ظروف متعددة من قبيل العوامل النفسية والاجتماعية ومستوى الوعي عند من شاء لهم القدر أن يتحكموا في مصائر بلادهم. جميعها أمور لا يمكن وضعها في إطار رياضي تحكمه نظريات وقواعد صارمة لا تتفق مع أحداث التاريخ باعتباره فعلًا إنسانيًا.
لكن عدم الاعتراف بهذه النظرية لا يُلغي أهمية دراستها والإفادة من بعض فلسفاتها وخصوصًا عند دراسة الوحدة الموضوعية للأحداث ودرجة ترابطها والعلاقة الوثيقة بين السياسة والاقتصاد والاجتماع والمذاهب الدينية والسياسية، جميعها ذات علاقة وثيقة ببعضها البعض فضلًا عن أهمية البعد الشخصي للأحداث الكبرى في التاريخ فكل وقائعه وصراعاته غالبًا ما تكون بمثابة رد فعل إنساني ابتداءً من الحروب الأوروبية خلال العصور الوسطى مرورًا بعصر النهضة وانتهاء بما جرى من وقائع أدخلت العالم في أتون حربين كبيرتين (الأولى والثانية) وصولًا الي ما يحدث في التاريخ المعاصر من مآسي وأزمات جاءت في مجملها نتاج سياسات بشرية يدفع العالم كله ثمنها باهظًا ليس على حرية الشعوب فقط وإنما على حياتها الاجتماعية والاقتصادية وتطورها العلمي.
غالبًا أهوال التاريخ ومصائبة هي أفعال إنسانية كما أن الخير كله عبر التاريخ هو فعل إنساني أيضًا لذا فإن النظريات الجديدة التي طورت حياة البشرية في الآدب والفكر والعلم جميعها أفعال بشرية وغالبًا ما يتلقفها المصلحون من الحكام لكي يُحيلوها إلي برامج وسياسات لخدمة البشرية حدث ذلك في العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية.
الأحداث التاريخية المعاصرة جميعها نتاج أعمال بشرية، حينما تحكمت الدول الكبرى في مصائر الدول الصغرى خلال جائحة كورونا التي ضربت العالم المعاصر وأستقوى الأقوياء باقتصادهم ومنتجهم العلمي وكان الثمن كارثيًا على الدول الضعيفة وصولًا إلى الأحداث الجارية من حرب ضارية ما بين روسيا وأوكرانيا وبدلًا من أن تبذل الدول الكبرى جهدًا دبلوماسيًا خلاقًا لإيقاف هذه المأساة، اصطفت دول الغرب لتأجيج الصراع من خلال دعمهم لطرف دون الآخر وهو ما أحدث أزمة اقتصادية وإنسانية طالت معظم دول العالم لعل كل هذا يبدد نظرية (تويمبي)، ستظل أحداث التاريخ فعلًا إنسانيًا يتسبب فيه المتحكمون في مصائر البشر.
لعل كل ما يمر به العالم الآن من أزمات كبرى جميعها صناعة بشرية خالصة في إطار صراع محتدم بين كثير من القوى لكن إخضاع التاريخ في مجمله لنظرية التحدي والاستجابة هو تنظير غير مقبول يأتي في إطار الأفكار الفلسفية المنفصلة عن الواقع الذي تحكمة علاقات دولية معقدة وغالبًا ما تقع الأحداث نتاج سياسات خاطئة تدفع البشرية كلها ثمنها باهظًا لكي تظل القوى الكبرى المتحكمة في مصائر العالم محافظة على مواقعها.
د.محمد صابر عرب