هل تنجح مصانع الابتكار في عبور فجوة وادي الموت؟
في نهاية عام 2023م، أعلن مرصد سيفتد (Sifted) القائمة السنوية لأنجح الشركات التكنولوجية الابتكارية الناشئة والمنبثقة عن الجامعات الأكاديمية في أوروبا، وتكتسب تصنيفات سيفتد اهتمام الباحثين والمبتكرين والمستثمرين لكونه المرصد الإعلامي البارز والموثوق به لدى مجتمع الشركات التكنولوجية الناشئة في أوروبا والعالم، وقد تم اختيار شركتين ناشئتين من مصنع الابتكار التابع لجامعة مانشستر البريطانية العريقة ضمن قائمة العشرة الأوائل، وهي شركة فوتينكس (FOTENIX)، وشركة تقنيات الدورة المائية (Watercycle Technologies)، والشركتان بقيادة رواد أعمال شباب يتسمون بالطموح، والتفوق العلمي، والمهارات في صناعة فرصٍ استراتيجية لإحداث تأثير بيئي واجتماعي واقتصادي هائل في الأسواق المستهدفة لابتكاراتهم، فضلًا عن قدرتها في تحقيق عوائد مجزية للمستثمرين في هذه الشركات، والسؤال هنا: إذا نجح مصنع الابتكار بجامعة مانشستر من اكتساب القيمة من الشركات الطلابية، وترجمة ابتكاراتها إلى منتجات قابلة للتسويق، فهل يعكس ذلك بداية ظهور جيل جديد من المؤسسات الوسيطة الداعمة لتلافي فجوة وادي الموت في الابتكار؟
في البدء تعالوا نتعرف إلى هاتين الشركتين المبتكرتين والمنبثقتين عن جامعة مانشستر، التي تتم تتويجها بين أفضل الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الأوروبية. نجد أن الشركة الأولى وهي فوتينكس قد أنشئت لمعالجة واحدة من أبرز تداعيات قرار خروج المملكة المتحدة البريطانية من الاتحاد الأوروبي من منظور ملف الأمن الغذائي، وذلك على ضوء استمرار آثار تغير المناخ، مع تباطؤ العمل الدولي حيال الالتزام بالبروتوكولات ذات الصلة، وتتابع فصول الحرب الروسية - الأوكرانية التي فرضت ضغوطًا غير مسبوقة على سلسلة الإمداد الغذائي العالمية، وتبعًا لذلك، يشهد قطاع الإنتاج الغذائي طلبًا متزايدًا على تكنولوجيات تحسين جودة الإنتاج من جهة، وتقليل الفاقد في مرحلة ما بعد الحصاد والتداول من جهةٍ أخرى، ومن هنا أنتجت شركة فوتينكس ابتكارها القائم على تطوير نظام تصوير بتقنية التصوير الطيفي ثلاثي الأبعاد، والموجه ببرامج تحليلية معززة بالذكاء الاصطناعي، للكشف المبكر عن الأمراض والآفات الزراعية، وذلك بإتاحة البيانات المُمكّنة لاتخاذ القرارات في مختلف نقاط خط الإنتاج؛ إذ تدعم بيانات مرحلة النضج الجزئي على تحسين التنبؤ بالمحاصيل كميًا، مما يقلل من الإفراط في الإنتاج، في حين توفر تنبيهات الأمراض والآفات تحليلًا لجودة ما بعد الحصاد، فضلًا عن تنبيهات ما قبل ظهور الأعراض المرضية بناءً على مؤشرات متعددة لصحة النبات، مثل الإجهاد الغذائي، والأمراض الفطرية، كما يتيح التمايز الكمي اختيار الصنف النباتي، مما يقلل من إجمالي الدورات الزراعية، وبالتالي يقلل من تكاليف التشغيل، ومن خلال قواعد البيانات يمكن لتطبيقات النظام ضبط مستويات الري والمغذيات والضوء لتحسين جودة المحاصيل، وضمان الاستخدام الأمثل لمدخلات الإنتاج.
وأما الابتكار الفائز الثاني والذي انبثق في شركة تقنيات الدورة المائية فقد حصل على براءة اختراع لعملية ترشيح المياه بخواص انتقائية عالية الحساسية؛ بحيث يمكنها استخلاص معدن الليثيوم من المياه الجوفية وبكميات تجارية، وهذه الشركة تصنف ضمن شركات التكنولوجيا العميقة، إذ تركز على تطوير أنظمة مستدامة، وعالية الإنتاجية، ومنخفضة التكلفة لاستخراج المعادن النفيسة من عملية معالجة المياه، وتعد هذه التقنية هي الأكثر تعقيدًا، لأنها مقترنة باستخراج سلع قيمة من هذه المياه بجانب إنتاج مياه صالحة للشرب، وفي المجمل يمكن أن تساهم هذه التقنية في معالجة ندرة المياه بجميع أشكالها، وفي دعم الصناعات القائمة على الليثيوم مثل قطاع إنتاج البطاريات.
وإذا تأملنا الأفكار الابتكارية التي تنافس في المسابقات الدولية والإقليمية في مختلف دول العالم نجد معظمها تتمحور حول توظيف الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى لمعالجة تحديات الأمن الغذائي، وندرة المياه، والاستدامة البيئة الداعمة للاقتصاد الدائري، ولكن تتفاوت جاهزية الأفكار في واقع التنفيذ، والجزء الأكبر منها لا يزال في المراحل المبكرة من تطوير التقانة، وبعضها قد يصل إلى مرحلة تطوير النماذج الأولية، والأغلبية الساحقة منها تهوي إلى وادي الموت، كما يسمى اصطلاحًا في سياق ريادة الأعمال القائمة على التكنولوجيا، وهو تعبير شائع عن فشل الأفكار الابتكارية في إكمال رحلة الابتكار والوصول إلى التموضع النهائي كمنتج أو خدمة في عالم الأعمال، وهذا يقودنا إلى النقطة المركزية؛ وهي الدور الكبير الذي قام به مصنع الابتكار بجامعة مانشستر في دعم الابتكارات الطلابية، وإيصال أول منتجاتها التكنولوجية للسوق، فإذا توقفنا عند ميثاق عمل مصنع الابتكار بجامعة مانشستر نجده ينص على الرسالة التالية: «مهمتنا الأساسية هي توظيف الملكية الفكرية التي تم تطويرها في الجامعة لإحداث تأثير إيجابي اجتماعيًا واقتصاديًا وبيئيًا»، إذ يعمل مصنع الابتكار كوسيط بين المخترعين والأكاديميين، والمبتكرين والباحثين من طلبة الدراسات العليا في الكليات العلمية والهندسية، والقطاع التصنيعي والإنتاجي، وذلك لتمرير التحديات الصناعية إلى الفرق الابتكارية، والمجموعات البحثية، ثم تحديد الأبحاث التي لديها القدرة على حل هذه التحديات، وإيجاد قيمة اقتصادية، ومن ثم ترجمة المخرجات البحثية إلى عوائد، وذلك بتحويل الابتكار إلى منتج، والانتقال من المفهوم إلى إطلاق مشروع تجاري، وهي رحلة متكاملة من الدعم والخدمات، وتشمل تعزيز المهارات التقنية، وأساسيات ريادة الأعمال، وتسجيل براءات الاختراع، وترخيص التكنولوجيا، أو تشكيل شركات فرعية جديدة داعمة للفكرة الابتكارية الأساسية، والتشبيك مع قطاع الصناعة، وجذب مستثمري رأس المال المغامر لدعم مرحلة تطوير التكنولوجيا، وتسريع الأعمال بإتاحة الوصول إلى الخبرة الصناعية، وبناء فرص التواصل العلمي والتجاري عبر المشاركات الفاعلة في المحافل العلمية والتكنولوجية مثل مسابقات الابتكار، والمؤتمرات السنوية.
وتتراوح أدوار مصانع الابتكار تبعًا للجاهزية التكنولوجية للأفكار الابتكارية، ففي مؤسسات التعليم العالي تتم أنشطة الابتكار في قوالب نمطية معروفة؛ وهي إما مشروعات التخرج الطلابية، أو رسائل علمية، أو منح بحثية ممولة من القطاعات الصناعية والإنتاجية، ومعظم النتاج البحثي والمعرفي يتوقف عند إنتاج نماذج أولية من الحلول الابتكارية، وعندها تبدأ القطاعات المستفيدة من هذه المعرفة رحلة تطويرية أخرى لترجمة المعرفة إلى منتجات قابلة للتنفيذ، ويحدث ذلك في غالب الأحيان عبر الخدمات الاستشارية التي تأخذ دورة منفصلة من البحث عن الحلول الابتكارية للتحديات دون النظر إلى النماذج الأولية السابقة، وهذا هو منشأ المعضلة الأساسية هنا. إن غياب الاتساق بين أنشطة الابتكار وبين مستوى الدعم المتاح لتحويلها من مرحلة الأفكار الإبداعية إلى المنتجات والخدمات القيمة هو السبب الرئيسي الذي يدفع بالشركات الناشئة إلى أسفل المنحنى وهدر الأفكار الابتكارية على حافة وادي الموت؛ الذي يمثل الفجوة بين الاختراع العلمي الخارق نظريًا ومختبريًا، وبين إمكانية التطبيق التجاري لها. ومن أجل ذلك تظهر الأهمية المركزية للمؤسسات الوسيطة مثل مصانع الابتكار في اتخاذ مناهج استباقية تجاه إعادة هيكلة عملية الابتكار بعيداً عن المسار الخطي الكلاسيكي، لتأخذ مسارات متنوعة تتناسب مع متطلبات الأطراف المستفيدة، وتساهم في تجويد نتائج الابتكار عن طريق إعادة صياغة التحديات بالتوافق بين جميع الشركاء، وأصحاب المصلحة، وبذلك يمكن للابتكار أن ينتج حلولًا للتحديات العرضية أو الجزئية، وتكتسب بذلك سمة التخصصية، والميزة التنافسية، إذ ليس بالضرورة أن تستهدف كل محاولة ابتكارية حل جميع جوانب التحديات وبشكل جذري ونهائي، وتحديدًا في سياق التقنيات المتقدمة، والشركات الناشئة الرقمية، وعلى مستوى النظام البيئي للابتكار، فإن شركات التكنولوجيا الناشئة التي استفادت من شتى أنواع الدعم من جامعاتها هي الأوفر حظًا في البقاء والتموضع في الأسواق المحلية والعالمية، وتسويق الابتكار لا يقل أهمية عن توفير الدعم الكافي للتطوير التكنولوجي، وهذه الحزم المتكاملة من الأدوار والخدمات الداعمة للمبتكرين والعلماء الشباب من مرحلة الفكرة إلى المنتج تعكس التطور الكبير في منظومات الابتكار التي بدأت فعليًا في إنتاج أشكال مؤسسية جديدة من وسطاء المعرفة، وقد انضمت مصانع الابتكار إلى المشهد التكنولوجي لإعادة كتابة قواعد اللعبة، وإتاحة طيف واسع من الإبداع بين النموذجين المركزي واللامركزي، وبذلك فإن الأدوار المجزأة بين مكاتب دعم الملكية الفكرية، ووحدات نقل التكنولوجيا، وحاضنات ومسرعات الأعمال، يمكن أن تتخذ الكثير من الأشكال والوظائف التكاملية لدعم رحلة الابتكار، وذلك تماشيًا مع التقدم العلمي المتسارع الذي أدى إلى قصر دورة التطوير التكنولوجي، فهي تارة تتطلب النموذج المركزي، وتارة أخرى تحتاج إلى عدة مدخلات، وبدرجات متفاوتة من اللامركزية، كما هو الوضع مع الابتكارات التكنولوجية الموجهة للقضايا الإنسانية الكبرى مثل التعليم، ومحاربة الجوع، وتحقيق الاستدامة البيئية، وباختلاف المسميات، يبرهن وسطاء المعرفة بأنهم حجر الأساس في تمكين الإدارة السلسة لعبور فجوة وادي الموت في الابتكار.