هل تسهم سياسات تنظيم سوق العمل في تعمين الوظائف؟

03 أغسطس 2024
03 أغسطس 2024

‏قبل الدخول في المقال، نعطي توضيحًا للفرق بين السياسات والإجراءات. السياسات عادة تتصف بالعمومية، ويتم اعتمادها من السلطات العليا في الدولة، وقد تكون مضمنة في القوانين أو المراسيم، ولا يغلب عليها التعديل خلال فترة زمنية قصيرة. ولتقريب الصورة فهناك السياسات التعليمية والسياسات الصحية. في الجانب الآخر فإن الإجراءات هي عبارة عن مسار لتوضيح الخدمة، أو العمل لتكون أكثر تفصيلًا ووضوحًا؛ لكي تسهم في الجودة ورفع الأداء. فهناك تسلسل أو تعدد للإجراءات تكون عن طريق أدلة تعريفية، أو كتيبات العمل أو الخدمة، وقد تسهم الإجراءات في الوصول إلى تنفيذ تلك السياسات. عليه ما يدخل ضمن تنظيم سوق العمل، يعتبر ضمن السياسات لأنها تتصف بالاستدامة وغير قابلة للإلغاء وإنما يمكن أن تخضع للمراجعة بين فترات زمنية.

‏السياسات العامة المتعلقة بتنظيم سوق العمل والهادفة إلى تحفيز العمانيين للالتحاق بشتى الوظائف بمؤسسات القطاع الخاص، والتي منها سياسة التعمين ليست جديدة بل تم اعتمادها منذ فترة طويلة. ولعل وضعها في الإطار التشريعي والرقابي بدأ منذ إصدار قانون العمل (الملغى) الصادر في (2003)، فقد وردت به مواد تدل على أن التعمين هو سياسة عامة يجب على جميع مؤسسات القطاع الخاص الالتزام بها حسب ما تحدده الجهات المختصة لكل قطاع من القطاعات الاقتصادية والخدمية. كما أن هناك وظائف محظور شغلها لغير العمانيين مع وجود فريق للتفتيش المركزي من القطاعات المختلفة، يقوم الفريق بمتابعة مدى التقيد بنسب التعمين، والتقيد بقوانين العمل والقرارات التي يتم اتخاذها لتنظيم سوق العمل.

‏تنظيم سوق العمل يعتبر من الركائز المهمة، وهناك من الدول من أنشأت هيئة مختصة لتنظيم سوق العمل كما هو الحال في مملكة البحرين الشقيقة. ولعل ما أعلنته وزارة العمل من سياسات حكومية لتنظيم سوق العمل أغلبها تهدف لرفع نسب التعمين في شتى قطاعات العمل. ولكن في أحيان كثيرة يكون هناك فتور في تفعيل تلك السياسات لأسباب عديدة منها: عدم توافقها مع مبادرات ومشروعات الاستثمار الأجنبي، والذي في أحيان كثيرة يرى المستثمر أهمية إشرافه على بعض وظائف الإدارة التنفيذية بحكم أنه يضخ استثمارات مالية بالدولة. لذا تكون الجهات المعنية أمام خيارين: إما التقيد التام بسياسات التعمين التي تفرضها الدولة بحكم أن الأصل في الوظيفة هي للمواطن. أو الخيار الآخر وهو منح درجة من المرونة عند تحديد نسب التعمين لفئات وظيفية معينة، والتي يتم الاتفاق عليها بين الأطراف وفق جدول يتم تطبيقه بشكل زمني محدد، حسب طبيعة مشروعات الاستثمار الأجنبي.

‏كما يلاحظ أن هناك ارتفاعا في أعداد القوى العاملة غير العمانية، والتي وصلت إلى ما يزيد على (600) ألف عامل من جنسية دولة واحدة حتى نهاية يونيو (2024)، الأمر الذي يعطي سببًا قويًا نحو الحاجة إلى تفعيل سياسات أكثر لتنظيم سوق العمل؛ نظرًا للتداعيات السلبية على سياسات تحقيق نسب التعمين المستهدفة في كل قطاع، وأيضًا الآثار السلبية على التركبية السكانية والثقافية على المجتمع، حيث إن البعض من تلك القوى العاملة يستمر بقاؤه في العمل أو الوظيفة لمدة تزيد على (20) عاما، مع أنه يفترض أن يكون وجود هذه القوى العاملة حتى يتم تأهيل القوى العاملة العمانية لشغل تلك الوظائف. ولا يفهم هذا القول بأن تنظيم سوق العمل ينبغي أن يلغي وجود القوى العاملة غير العمانية لمستوى صفر، فهذا من الصعوبة بمكان في ظل الأسواق المفتوحة والتنافسية بين الدول، ومدى الحاجة لبعض الكفاءات عالية التأهيل لاستكمال مسارات التنمية. ولكن من المهم جدًا أن تكون هناك إجراءات إضافية لتنظيم سوق العمل؛ لتقليل أعداد تلك القوى العاملة. فعلى سبيل المثال: ما تم اتخاذه من تقييد في إصدار تصاريح العمل لبعض الجنسيات الآسيوية خلال الفترة الماضية أسهم في انخفاضها بنسبة (6.2%-) للفترة بين يونيو (2023) إلى يونيو (2024).

كما أن سياسة التعمين مترابطة مع سياسة مستوى الأجور. حيث يلاحظ ارتفاع نسب التعمين في حال وجود أجور تتناسب مع الوظائف. فكما كان الأجر أو الراتب مناسبا شجّع إقبال المواطنين على العمل والعكس صحيح. ولعل سياسة التعمين ينبغي أن يتم التركيز فيها من أعلى سلم الوظائف العليا، أو الإشرافية، أو التي تدر دخلًا مجزيًا وليس من الوظائف الأدنى. فعندما يتم التعمين للوظائف العليا بالقطاع الخاص؛ فهذا يؤدي إلى شغل القيادات العمانية لتلك الوظائف مما يؤهلها لمعرفة التحديات التي تعيق مسار التعمين، وبالتالي اقتراح الاستراتيجيات المناسبة للسير في تحقيق النسب المستهدفة بشكل أسرع. إن ابتداء تعمين الوظائف العليا تؤكده بيانات المجموعات المهنية للوظائف. فعلى سبيل المثال: فإن وظائف مديري الإدارة العامة والأعمال التي تشغلها القوى العاملة غير العمانية ارتفعت بنسبة تزيد على (16%) من (70612) إلى (82127) خلال الفترة من يونيو (2023) إلى يونيو (2024)، أيضا في جانب الأعمال الحرة هناك وظائف ذات عائد مادي مستدام ومنها على سبيل المثال: العاملون بمحلات صياغة الذهب والفضة فهذه الوظائف تحتاج إلى معرفة مهنية بالسوق وهناك إقبال من العمانيين للعمل بها في بعض الولايات ومنها ولاية نزوى، وبالتالي ذلك النجاح أساسه ثقافة العمل المترسخ بتلك الولاية. لذلك ينبغي البناء على تلك الثقافة والسعي نحو رفع نسب التعمين لهذه المهن وغيرها من المهن التي تتصف بالاستدامة والعائد المادي الجيد ببقية الولايات، مع العلم بأن مؤشر تنافسية الولايات حدد مؤشرا فرعيا يتعلق بتعمين الوظائف. ‏وللمقارنة بين نوعية الوظائف وسياسة مستوى الأجور، نأخذ مثالا من الواقع العملي من خلال تصفح إعلانات الوظائف عن طريق تطبيق «معاك» الذي تشرف عليه وزارة العمل، حيث تم الإعلان عن وظيفة -طبيب اختصاصي جلدية- براتب لا يقل عن (450) ريالا عُمانيا وفي الفترة نفسها تم الإعلان عن وظيفة -فني مختبرات طبية- براتب لا يقل عن (500) ريال عُماني وبالتالي لا توجد مقارنة بين الوظيفتين من حيث المستوى التعليمي وندرة الوظائف الطبية، ولكن يتضح أن الراتب لوظيفة الطبيب كان الأقل. هذا مثال وهناك أمثلة أخرى في عدم تناسب الوظيفة مع الراتب والمؤهلات العلمية؛ عليه فإن ترك الحد الأدنى للأجور بدون ربطه بالمؤهل العلمي قد يؤدي إلى انخفاض نسب التعمين في القطاع الخاص. وبالتالي تنظيم سوق العمل لا بد أن يكون بمعايير تراعي المستويات العلمية للمؤهلات مع الحد الأدنى للأجور حسب فئات الوظائف. كما أن وضع حد أدنى لأجور فئة بذاتها من الوظائف أو المهن ورد نصا بقانون العمل (الملغى)، إلا أن الحد الأدنى بوضعه الحالي يشمل جميع فئات الوظائف ودون مراعاة للمؤهلات العلمية.

‏عليه يلاحظ أيضًا أن تحديد الحد الأدنى للأجور دون مراعاة للمؤهلات لم يؤدِ إلى ارتفاع نسب التعمين بل انخفاض أعداد القوى العاملة العمانية بمؤسسات القطاع الخاص المؤمن عليهم، حيث انخفضت أعدادهم بنسبة كبيرة تجاوزت (31%-) لفئات الأجر بين (325و400) ريال عُماني خلال الفترة من يونيو (2023) إلى يونيو (2024). في المقابل هناك ارتفاع بنسب متفاوتة للقوى العاملة العمانية لفئات الأجور من (800 إلى 2500) ريال عُماني فأكثر خلال الفترة نفسها. هذا يعطي مؤشرًا بأن هناك علاقة إيجابية بين الوظائف ذات الأجور المتناسبة مع الوظيفة، وعلاقة طردية بين أعداد الوظائف التي يلتحق بها العمانيون مع الأجور المنخفضة. وبالتالي فإن المحصلة النهائية في عدد العمانيين العاملين في منشآت القطاع الخاص المؤمن عليهم انخفض بنسبة تجاوزت (8%-) وبعدد يتجاوز (20) ألفا تقريبا خلال الفترة نفسها.

أما بالنسبة لسياسة التعمين بالقطاع الحكومي فإن البيانات تشير إلى انخفاض القوى العاملة غير العمانية بنسبة (1.6%-) وهذا مؤشر جيد، ولكن ذلك الانخفاض كان بعدد قليل جدا وصل إلى (1,238) موظفا. كما بلغ عدد القوى العاملة غير العمانية (42940) حتى نهاية يونيو (2024). عليه أيضًا القطاع الحكومي مطالب بالإسراع في رفع نسب التعمين. وليتم ذلك فهو يحتاج إلى سياسات أكثر صرامة، مع تشجيع الجهات الحكومية التي تسير في نهج التعمين من خلال تقديم حوافز مالية لخطط التعمين لكل وحدة حكومية أسوة بالنهج المعمول به في تحفيز مؤسسات القطاع الخاص، والتي تحقق نسب التعمين المستهدفة عن طريق تقليل تكلفة بعض الرسوم المفروضة عليها. وبالتالي تنظيم سوق العمل عن طريق تفعيل بعض من سياسات التعمين التي طرحتها وزارة العمل، والتي يبدأ تطبيقها في شهر سبتمبر من هذا العام سوف تسهم إيجابا في دعم الجهود نحو توفير فرص أكثر للباحثين عن العمل.‏