هل تستغل الصين الأبواب الخليجية المفتوحة؟
يتشكك البعض في نجاح الانفتاح الصيني الجديد خليجيا/عربيا، وبالتالي يبددون تفاؤل القمم الصينية السعودية الخليجية العربية التي استضافتها الرياض مؤخرا، إذ يعتقدون أن واشنطن لا تزال ذلك الرعب الذي يُفشل الانفتاحات داخل منطقة امتيازها مع بريطانيا الحليفة التقليدية للخليجيين، ففكرهم لم يغادر حقبة الخمسة عقود الماضية، أو أنهم يقيسون حالة أو حالتين ويعمموها على الكل، لذلك لا يقرأون الواقع بمستجداته المعاصرة والمستقبلية، وفي هذا الواقع تتاح للصين الآن فرص تاريخية لإقامة شراكة استراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي بصورة مثالية على المستويَين الثنائي والجماعي، وهذا يتوقف على ما ستقدمه بكين للدول الست في ظل عدم استعداد واشنطن ولندن وأوروبا لتغيير ثوابتهما السياسية والاقتصادية مع دول المجلس التعاون الخليجي.
لكن، هل يمكن الذهاب بالتوقعات إلى إزاحة واشنطن ولندن من الخليج؟ التساؤل راديكالي، وقد لا تكون الإجابة عليه الآن حاسمة، لكن، تكمن مشروعية طرحه في كونه احتمالا عقلانيا إذا ما واصلت بكين نجاح توغلها خليجيا/ عربيا، وفي الوقت نفسه، استمرت واشنطن ولندن في ثوابت سياستهما الابتزازية، وتسييس حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، أما تساؤل اللحظة الواقعية الآن يكمن في هل يمكن أن تتفوق بكين على الأمريكيين والإنجليز في منطقة الخليج العربي؟ ومبررات طرح هذا التساؤل الأخير قائم على وجود إرادة سياسية جديدة في كل عاصمة خليجية -مع التفاوت الكبير- تنظر لمستقبل بلدانها بصورة مختلفة، وليس أمامها من خيارات «وجودية» سوى نجاحها في صناعة مستقبل بلدانها الجديد لمواجهة مجموعة متغيرات تمس كياناتها السياسية إذا لم تتفاعل إيجابا معها من الآن.
فطبيعة المفاهيم المتعارف عليها، معظمها قد أصبحت متغيرة بصورة راديكالية ومن الآن، فكيف بعد ثلاثين سنة مقبلة، وهذه المدة الزمنية يحددها نسق وسرعة المتغيرات الراهنة، إقليميا ودوليا، ونجاح مواجهتها تتوقف على مدى نجاح رؤى الخليج الاستراتيجية الجديدة، وكمثال لهذه المتغيرات، تغيير مفهوم الأمن الداخلي للدول الذي أصبحت الطائرات المسيّرة، والحروب الإلكترونية أكبر مهدداته.. إلخ فأي عملية اعتماد على الأجنبي مهما كان مستوى الثقة فيه، وأي تأخير في عملية الاعتماد على الذات أولا، فستجد الدول نفسها مكشوفة وتحت إملاءات خارجية إقليمية أو دولية، وربما جماعات متطرفة تفرض شروطها وأجندتها عليها، وستجد سيادتها وقراراتها في تبعية لمن يؤمن الحماية الأمنية والعسكرية، وهذا سيكون على حساب رضا شعوبها على كل المستويات بما فيها المالية والاقتصادية.
لذلك تجد دول مجلس التعاون الخليجي والصين في تقاطع المصالح والمنافع، والظرفية الدولية مواتية بصورة غير مسبوقة، فيكفي هنا الإشارة إلى أن واشنطن/ بايدن تجري الآن مفاوضات معلنة مع بكين، وقريبا ستكون على مستوى وزيري خارجية البلدين، وهذا يعني كذلك، تقاطع المصالح الأمريكية مع الصين رغم تصنيف الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بكين بأنها الخطر الأول لواشنطن في العالم، كما أنها لن تتوفر لواشنطن حجية رفض الخليج التعاون مع بكين، ما دامت هي نفسها تمضي قدما فيه، وما دامت لن تلبي كل الاحتياجات المستقبلية للخليج.
وبدأت لنا بعض دول الخليجية أكثر إرادة وتصميما كالرياض في إقامة شراكة مع بكين ذات نفع مشترك، وبالندية القائمة على البرغماتية، والدليل، التوقيع على شراكة استراتيجية للتعاون في مجالات الاقتصاد الرقمي خلال القمة السعودية الصينية الأخيرة، كما ستجد الشركات الصينية حصة معتبرة في مشاريع الرياض النووية المدنية المعلنة، والكرة هنا في الملعب الصيني، فبقدر ما تتجاوب بكين مع المتطلبات الخليجية غير العادية، بقدر ما سيفتح لها الأبواب الخليجية، وهذه مسألة مفترضة لكل الأبواب الخليجية الست؛ لأننا لا نتوقع أن تظل الدول متخلفة عن الركب الحضاري الجديد، وتظل معتمدة على الحماية الأمريكية والبريطانية، أو أنها تكتفي بالشراكة الاقتصادية والتجارية مع بكين فقط.
ولا نعتبر اتفاقية التجارة الحرة بين بكين ودول المنظومة الخليجية ككتلة واحدة، إنجازا تاريخيا ضمن سياق التحولات الكبرى التي ينبغي أن تدشنها الدول الخليجية الآن، والاتفاقية على وشك الانتهاء، وهي إنجاز في سياق النجاح الاعتيادي كونها تأتي بعد أن عجزت بكين أن تحقق عام 2020 هدفها أن تكون أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي رغم وصول حجم التجارة بين الجانبين 164.6 مليار دولار، وهي الآن في الطريق الصحيح، عندما أصبحت تتفاوض مع الدول الست ككتلة واحدة عوضا عن الاستفراد بكل دولة.
والصين بقيادة شي جين تدرك طبيعة المتطلبات الخليجية المعاصرة التي لا يمكن أن ينفتح حولها الغرب، وإن انفتح، فلن يكون كما يجب، لأن الغرب سيكون محكوما بضغوطات يمينية متطرفة، وبقوى حقوق الإنسان مؤثرة على صناع القرار؛ لأنهم -أي صنّاع القرار- يستمدون منها شرعية الولوج والبقاء على كراسيهم في السلطة، بينما بينج شرعيته قد حسمت لمدى الحياة، من هنا يكون الرهان على الثابت غير المسيس، وليس المتغير ببنى تحتية ملونة سياسيا «فكريا وأيديولوجيا» والتساؤل ماذا ستقدم بكين/ بينج لدول مجلس التعاون الخليجي، هو التساؤل الذي يتصدر قلق الغرب رغم غبائه السياسي، ويمكن الاستدلال على هذا الغباء باستدلالين فقط هما:
الأول: ربط الاتحاد الأوروبي شراكته الاستراتيجية الجديدة مع دول مجلس التعاون الخليجي ببند اجتماعي يتدخل في الشؤون الداخلية لكل دولة خليجية، ويفرض عليها ثقافته وأفكاره، وقد خصص لها موازنة تبلغ 1.7 مليار يورو، وأوكل لمؤسسات اتحادية وأوروبية كسفارات دوله بمسؤولية التنفيذ -مقال سابق- والآخر، إعلان وزارة الخارجية الأمريكية الصريح بتحويل برنامج مساعدتها الخارجية لنشر الإلحاد، ودعم شبكاته في المنطقة، وذلك رغم ما لها من مصالح اقتصادية وجيوسياسية وجيوستراتيجية في المنطقة.
على عكس سياسة الصين الخارجية التي تركز على التعاون الاقتصادي والتجاري، وتترك الشأن الداخلي لخيارات الدول مع شعوبها، لكن ومنذ عام 2017 أصبح التعاون العسكري يدخل في صلب هذه السياسة، ففي ذلك العام -أشرنا إليه في مقال سابق- تم تعديل الدستور الصيني، وتم السماح بخروج القوات العسكرية الصينية لخارج حدودها عندما تشعر بكين بالخطر على مصالحها في الخارج، وقد تم تعزيزه بإقامة قواعد عسكرية في المنطقة لهذا الغرض، وهذا البعد قد يبعث برسالة اطمئنان للدول المستقبلة للاستثمارات الصينية، وذلك على اعتبار أن بكين قد أصبحت الآن قوة عسكرية يعتد بها، وأن قانونها الداخلي قد سمح لها بتحريك قوتها العسكرية في أية بقعة من العالم للدفاع عن مصالحها، وفي عام 2020 تفوقت على روسيا، وأصبحت ثاني أكبر منتج للأسلحة في العالم وفق تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام «سيبري» وكانت بكين قبل عشرة أعوام تعتمد على استيراد الأسلحة، وبكين دولة متقدمة في التكنولوجيا الشاملة، أي العسكرية والمدنية، وما لا يمكن للخليج حصوله من الغرب، يكون بسهولة توفره من بكين، وأفضل نموذج هنا التقنية النووية للأغراض السلمية والتي يمكن تطويرها لاستخدامات متعددة.
ولم تستفد واشنطن/ بايدن من خسارتها القارة الإفريقية لصالح الصين وروسيا، ويبدو أنها ستكرر التجربة ذاتها في المنطقة العربية والخليج خصوصا، فالتغلغل الصيني في المنطقتين ومصالح بكين الكبرى الحالية والمستقبلية هو الذي يدفع بعقد القمم الثلاث للرئيس الصيني في الرياض، حيث يبلغ حجم التبادل الصيني العربي أكثر من 300 مليار دولار، وقد اتفق قادة الصين والعرب في قمتهم على تعزيز الشراكة في تنفيذ مبادرة الحزام والطريق، وعقد قمتهم الثانية في بكين في موعد لم يحدد، ربما يأتي الاستدراك الأمريكي والبريطاني والأوروبي متأخر كعادته، وفي حينها، هل سيكون تغيير الغرب بعض ثوابت تعامله مع الخليج مجديا خاصة في مرحلة يتشكل فيها النظام العالمي على تعددية الأقطاب؟
ونقف الآن على قناعة تامة بأن الغرب/ الأمريكي سيجد نفسه مضطرا لتغيير سياسته مع دول مجلس التعاون الخليجي إذا ما أصرت كلها أو إحداها على تغيير بوصلتها من الغرب إلى الشرق، وبالذات بكين، فبكين تملك المال لنجاح المستقبل الاقتصادي المستدام، وتملك الإمكانيات التقنية بشقيها المدني والعسكري التي يحتاجها الخليج، وربما تكون بكين قد قدمت من خلال قمم الرياض بصورة ثنائية أو جماعية، عروضا ضخمة واستثنائية يعجز الغرب عن تقديمها، وكل متابع يمكن يقرأ هذا الاستنتاج من زوايا عديدة، لذلك، لا يمكن استبعاد مختلف السيناريوهات التي تشكل صيرورة تاريخية معاصرة في العلاقات مع الصين، وقد يدفع الغرب الثمن غاليا، ومع هذا يمكن القول إن الدول الخليجية الست ليست كلها بنفس الإرادة السياسية التي ستشكل منها هذه الصيرورة، وحتى لو تشكلت من دولة واحدة، فذلك سيكون ثورة على الجغرافيا الإقليمية، وعلى مصالح الغرب الأمريكي، وعندما يشعر الغرب بالخطر سيجبر على تغيير سياسته.