هل تدير أوروبا ظهرها لليسار؟
ترجمة: أحمد شافعي -
قبل أشهر قليلة، أخذ الليبراليون الأمريكيون يحكون لأنفسهم في قلق حكاية تحذيرية عن السياسة في أوروبا، ذلك أن النهضة اليمينية التي بدت حتمية في انتخابات هذا الصيف في أوروبا كانت نذيرًا بمستقبل سياسي مقبض للأوروبيين والأمريكيين.
غير أن هذه النهضة اليمينية، مثلما تبيَّن، لم تحدث. ففي تصويت البرلمان الأوروبي في يونيو، لم يحقق اليمين المتطرف إلا مكاسب متواضعة، وترسخ ائتلاف الوسط الحاكم بشكل كبير. وفي بداية يوليو، فاز حزب العمال البريطاني بثاني أكبر أغلبية برلمانية منذ الحرب العالمية الثانية، مهينًا المحافظين في يمين الوسط ومهمشا حزب «الإصلاح» اليميني المتطرف، وبعد أيام قليلة من ذلك في فرنسا، أدى مزيج من التصويت الإستراتيجي والإقبال القوي من اليسار على التصويت إلى إبقاء مارين لوبان خارج السلطة وإبطال تهديد حزبها الوطني.
ولكن بعد شهرين، ازدادت القصة قتامة في أوروبا، لا في ألمانيا فقط، حيث أصبح حزب (البديل من أجل ألمانيا) هذا الشهر هو أول حزب يميني متطرف يفوز بانتخابات ولاية منذ عام 1945، وإنما أيضا في تلك الأماكن التي أنتجت انتخاباتها في يوليو تنهدات الارتياح الكبيرة في أوساط اليسار العالمي.
في فرنسا يبدو أن الانحراف الاشتراكي في الانتخابات البرلمانية أثار استياء الرئيس الوسطي إيمانويل ماكرون، فكان رد فعله أن ماطل طوال قرابة شهرين رافضًا ببساطة أن يقوم بتشكيل حكومة.
كان ماكرون قد دعا إلى الانتخابات في مفاجأة، متحديًا شعبه علنا أن يرفض لوبان واتجاهها القومي المعادي للأجانب الذي تزداد شعبيته. وفعل الناخبون الفرنسيون ذلك بالضبط، لكن ليس بالشروط التي كان يرجوها ماكرون: فلم يفز ائتلاف الرئيس الوسطي، من حيث عدد المقاعد البرلمانية، وجاء ائتلاف جان لوك ميلينشون اليساري، الذي تحالف معه ماكرون على مضض في اللحظة الأخيرة، فضمن أكبر عدد من المقاعد. وفي رد فعل على ذلك، بدا ماكرون وكأنه لا يقبل النتائج، أو بدا على الأقل كمن لا يشعر أنها تلزمه بالإسراع بالتحرك لتعيين رئيس وزراء جديد، لدرجة أن تساءل بعض المراقبين عن المدة التي يمكن أن يستمر فيها البلد بدون رئيس وزراء جديد - وهل يمكن أن يتحول الجمود بسرعة إلى وضع راهن جديد.
وفي الأسبوع الماضي، وقع ماكرون أخيرًا على اختياره وهو ميشيل بارنييه، المحافظ والمفاوض السابق في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي فاز حزبه بأقل من 7٪ من الأصوات في الجولة الأولى، بعد أن أقام حملته في انتخابات سابقة على الإلزام بالخدمة العسكرية، وإنهاء الهجرة إلى أوروبا لسنوات، وإيكال مهمة مراقبة الأحياء «الخارجة على السيطرة» إلى الجيش.
يمثل بارنييه -من أوجه معينة- شخصية مؤسسية وحليفًا طبيعيًا لماكرون، وإن كان من الواضح أنه أميل منه إلى المحافظة. ولكن يمين الوسط قوبل بالرفض في الانتخابات، ولضمان دعم تعيين بارنييه، أقام ماكرون تحالفًا مؤقتا على الأقل مع لوبان التي طالما اعتبرت نوعًا من التهديد الحضاري لجزء كبير من المجتمع الفرنسي، وتعد الآن فعليًا الحكم والضامن للحكومة الجديدة، وشريكًا حاكمًا لماكرون بطريقة أو بأخرى.
في نهاية هذا الأسبوع، خرج عشرات الآلاف في باريس وفي جميع الأنحاء احتجاجًا على التعيين، ووصفت بعض زوايا اليسار الأمر بـ«الانقلاب الناعم»، ولو أن هذا ليس منصفا تمامًا؛ إذ يشيع في الأنظمة البرلمانية أن تتفوق تحالفات الأحزاب الأصغر على أكبر عدد من الأصوات لتشكيل الحكومة، وفي إجمالي الأصوات المباشرة أيضا، كان أداء (التجمع الوطني) أفضل من التحالف اليساري أو الوسط، ومع ذلك جاء تعيين رئيس الوزراء، والترتيب الذي قام عليه، بمنزلة الصدمة، نظرا لأن ماكرون دعا إلى الانتخابات لتهميش لوبان ثم أمضى الحملة الانتخابية، بالتحالف مع اليسار، مهاجما التهديد الذي تمثله هي وحزبها.
منذ البداية، كان كثيرون في اليسار الفرنسي يشككون في إخلاص ماكرون، معتقدين أن هدفه من الدعوة إلى الانتخابات لم يكن هزيمة لوبان وإنما «تدجينها»، بترتيب تصويت قد يفوز به حزبها، وإدخال (التجمع الوطني) من ثم إلى الحكومة على المستوى البرلماني بهدف تقليص الجاذبية التي يحظى بها من جراء مناهضته للمؤسسة قبل حملة الانتخابات الرئاسية في العام المقبل.
وفور مواجهة التصويت، واجه ماكرون خيارين: تحالف حاكم مع اليسار، الذي فاز بالفعل في الحملة الانتخابية إلى جانبه، وخيار أقصى اليمين، الذي كانت عودته المحتملة سبب كوابيس للمؤسسة الأوروبية الغربية لعقود من الزمن. والرئيس الفرنسي، الذي يوشك شخصيًا أن يكون صورة كاريكاتيرية لتلك النخبة القارية، أدار ظهره لليسار القديم وسعى بدلًا من ذلك إلى تعزيز الدعم من خلال اللجوء إلى أصدقاء جدد في اليمين الجديد. أما عن السبب في ذلك، فقد قدم سلف ماكرون، أي نيكولا ساركوزي، أبسط إجابة، إذ قال صراحة لصحيفة لو فيجارو: إن «من الخطأ القول إن مارين لوبان أخطر من جان لوك ميلينشون».
لا يعد هذا «تحولًا تامًا إلى النازية»، على حد تعبير دوروثي طومسون الذي لا ينسى. ولكن التجاوز الفعلي لنتائج الانتخابات من خلال تقديم غصن زيتون لليمين المعادي للأجانب في فرنسا لا يمثل أيضا لحظة ملهمة لليبرالية الأوروبية. ولكن الأمر، بدلا من ذلك، يبدو وكأنه علامة أخرى على صعود ما يسمى «الوسط المتطرف» أو «الرجعي» الذي أطلقت عليه قبل بضعة أشهر «انجراف يمين الوسط البرجوازي في القارة إلى الهامش» أي الارتياح المتزايد بين النخب التجارية والسياسية في أوروبا والسياسات الأكثر قسوة لجناحها الوطني الجديد، وإنها لمقامرة بطبيعة الحال، أن يفترض أن لوبان لن تستفيد سياسيًا من لعبة العروش.
في بريطانيا، يبدو التحول عن اليسار مختلفا بعض الشيء، فهو أقل شبها بخيانة صريحة تالية للانتخابات، وأقرب إلى الزحف الوسطي البطيء. في عام 2019، أقام جيريمي كوربين، زعيم حزب العمال آنذاك، حملته الانتخابية على وعود بأكثر من ثمانين مليار جنيه إسترليني في الإنفاق الجديد، وفاز بأكثر من عشرة ملايين صوت. وفي عام 2024، وعد خليفته كير ستارمر بأقل من خمسة مليارات جنيه إسترليني في الإنفاق الجديد سنويا وفاز بأقل من عشرة ملايين صوت ولكنها أدت إلى ما يعد بالرغم من ذلك انهيارا مشهودا في البرلمان، نظرا لانخفاض نسبة الإقبال على التصويت، والحملات الذكية التي قام بها حزب العمال والانهيار التاريخي للمحافظين.
بعد أن خاض حملته الانتخابية ببرنامج الوسطية التكنوقراطية، التزم حزب العمال بقيادة ستارمر بالنص الأساسي منذ انتصاره - محذرا من ميزانية تقشف قادمة، معلنا عن نفسه باعتباره الحزب الجديد للتجارة البريطانية، متعهدا بشن حملة صارمة على الهجرة. ولعل المراقبين من الخارج كانوا يرجون أن يحكم حزب العمال، فور توليه السلطة، حسبما قال زميلي بول كروجمان، «بطريقة الحزب المهيمن الذي يمثله الآن»، فإذا بالروح التي سادت الصيف بعيدة عن «إن للانتخابات عواقبها» وأقرب بوضوح من «عودة الكفاءة». فقبل الانتخابات، كانت حملة حزب العمال تتعرض للسخرية باعتبارها «التغيير بدون تغيير»، والآن، يقول ستارمر للناخبين: إن الحزب ببساطة «مضطر أن يفقد شعبيته».
والتبعات السياسية واضحة بالفعل. فوفقا لأحد استطلاعات الرأي، انخفض معدل تأييد ستارمر الصافي ثلاثين نقطة في أربعين يوما والتقييم الرافض لوزيرة المالية راشيل ريفز، المسؤولة عن الميزانية، أعلى مرتين تقريبا من معدل تأييدها. ازداد الاستياء العام من الحزب بنحو عشرين نقطة مئوية منذ الانتخابات، وفي استطلاعات الرأي المبكرة حول «نوايا التصويت»، يحتل حزب العمال الآن مرتبة أعلى بقليل من المحافظين، الذين بدوا قبل شهرين غارقين في انهيار لا يمكن التعافي منه. كما حقق حزب الإصلاح القومي الناشئ بزعامة نايجل فاراج طفرة كبيرة هو الآخر. فالحزب الذي حقق فوزا مقنعا في الصيف الماضي متماسك بعض الشيء، ولم يحل الخريف بعد.
واقع الأمر أن حزب العمال تعرض لموقف صعب. وليس من قبيل الصدفة أنه يطلق على بريطانيا لقب «أمة الركود»، فلا يحلم أي سياسي بأن يجد في استقباله، بعيد توليه منصبه، أعمال شغب عنصرية تشمل البلد كله لدرجة أن تستحق وصف «المذابح».
ولكن من مخاطر إقامة مثل هذه الحملة الحذرة أنه لا يكون أحد ملتزما تجاه حكومتك، والجانب السلبي من القيام بذلك مع عصيان اليسار مرارا وتكرارا هو أن الناخبين الوحيدين المتحمسين لمعرفة ما قد تفعله بهذه السلطة هم الذين يشجعونك على تبديدها. ولكن حكومة ستارمر لا تزال فتية، وثمة بعض النقاط الليبرالية المضيئة فعلا، ومنها ما هو في مجال المناخ، حيث تغلق الدولة التي اخترعت الثورة الصناعية آخر محطة تعمل بالفحم. ولكن مع مرور شهرين فقط على حكومة حزب العمال الجديدة، لا يبدو من السابق لأوانه أن نتساءل عما لو أن أجندة أكثر تقدمية ربما كانت لتنتج انتصارا شعبيا أصغر، ولكنها كانت لتحقق أيضا انتصارا أكثر دواما وثمارا.
ديفيد والاس ويلز من كتاب الرأي في مجلة نيويورك تايمز، ومؤلف كتاب «كوكب الأرض غير صالحة للسكنى».
خدمة نيويورك تايمز